ماذا يحدث لو تجرأت دولة على عدم سداد ديونها؟... سيناريو قد ينتهي بكارثة
تكرر فشل الدول في سداد ديونها مرارًا على مر التاريخ، حيث فشلت إسبانيا خلال القرن السادس عشر في سداد ديونها لأكثر من 4 دول مدينة، كما تخلفت الأرجنتين واليونان عن سداد التزاماتها نحو 8 مرات خلال المائتي عام الماضية، بحسب مجلة “الإيكونوميست”. لكن التخلف عن سداد الديون السيادية يختلف عن إفلاس الشركات، حيث إنه من الصعب على المقرضين أن يستعيدوا ملكيتهم من الدول المتخلفة عن السداد، مقارنة بالشركات التي لا تلتزم بسداد التزاماتها.
وقد كانت الدول التي تقدم الديون في الماضي تستخدم القوة العسكرية ضد الجهات المستدينة التي أنكرت التزاماتها أو أعلنت أنها لن تقوم بسدادها، ولم يكن الخيار العسكري دائماً أمراً مجدياً ناهيك عن تكاليف الحروب، التي تثقل كاهل الجميع من كافة النواحي.
أما في الحاضر فإن الدول تحسب ألف حساب قبل التفكير في إعلان إفلاسها وعجزها عن سداد الديون، فضلاً عن إنكار الالتزامات المترتبة عليها والإفصاح بعدم الرغبة في دفعها. لأن ذلك سيكلف الدولة والمجتمع ثمناً غالياً قد يمضون عقوداً من أعمارهم عاجزين عن دفعه في براثن الفقر والركود.
إذا تجرأت دولة وأنكرت ديونها: (النموذج الإكوادوري)
في كانون الأول من عام 2008 فاجأ الرئيس الإكوادوري "رفاييل كوريا" العالم حين أعلن امتناع بلاده عن دفع مبلغ قدره 30.6 مليون دولار كان من المفترض أن تسدده الإكوادور للمقرضين الدوليين في نفس الشهر كفائدة على دين مستحق عليها قدره 510 ملايين دولار يجب سداده بالكامل في عام 2012.
وقد اتهمت اللجنة التي شاركت باتخاذ هذا القرار، مجموعة من المسؤولين الحكوميين والمصرفيين الأجانب، بالتلاعب غير القانوني بتلك القروض بغرض كسب أرباح كبيرة.
لكن بغض النظر عن عدالة قضيته من عدمها، فشِل "كوريا" في النهاية في تنفيذ تهديده ولم يستطع الامتناع عن سداد ولو دولار واحد من تلك التي اقترضتها بلاده. بل وصل الأمر إلى أن الإكوادور ظلت تحاول إرضاء وإقناع المقرضين الدوليين خلال السنوات القليلة الماضية، لتحصل أخيراً على قرض بقيمة 4.2 مليار دولار من صندوق النقد الدولي.
تلك الحادثة تثير سؤالاً مثيراً جداً للاهتمام طرحته قبل ذلك عالمة السياسة والاجتماع الأمريكية "سوزان جورج" حين قالت: "لماذا لا ترفض دول العالم الثالث ببساطة أن تدفع ديونها؟ هذا السلوك لم يكن غريباً على العلاقات الدولية طوال الخمسمائة عام السابقة على الحرب العالمية الثانية، فلماذا لم يعد ممكناً اليوم؟"
لفهم هذه المسألة تستعرض السطور التالية جزءاً من كواليس أزمة الديون التي عانت منها أمريكا اللاتينية خلال ثمانينيات القرن الماضي، لنتعرف على العناصر الجديدة التي باتت تحكم المعادلة.
إعادة تدوير دولارات النفط... هكذا وقعت الدول المستدينة في الفخ:
مع انتهاء الحظر النفطي الشهير الذي فرضته منظمة أوبك بزعامة السعودية على الولايات المتحدة الأمريكية، ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير وغير مسبوق في السنين التالية لانتهاء الحرب المتسببة بالحظر. وبسبب هذه القفزة الكبيرة في أسعار النفط وجدت الدول النفطية نفسها تمتلك سيولة ضخمة من العملة الصعبة "الدولار". ومن هنا بدأت البنوك الكبرى في وول ستريت تنخرط في تجارة رائجة جداً في ذلك الوقت تعرف باسم "Petrodollar Recycling" أو إعادة تدوير دولارات النفط، والتي تقوم خلالها بأخذ الأموال الفائضة من الدول الغنية بالنفط لتعيد استثمارها عبر إقراضها بفائدة عالية للدول النامية.
وتزامن ذلك مع تورط الاقتصادات الغنية وفي مقدمتها الاقتصاد الأمريكي في فخ الركود، مما أثر سلباً على عوائد الاستثمارات المحلية بتلك الاقتصادات. وفي وسط هذه الظروف سارعت البنوك والمؤسسات المالية الكبرى لتغيير وجهتها ليصبح نشاطها الرئيسي هو إقراض الدول الناشئة وعلى الأخص دول أمريكا اللاتينية. حيث أقرضت 9 بنوك أمريكية فقط نحو 53 مليار دولار للمكسيك وحدها!
لكن لم تدم هذه الحفلة طويلاً. ففي محاولة منه لوضع حد لأزمة الركود التي عانى منها الاقتصاد الأمريكي خلال السبعينيات قام رئيس الاحتياطي الفيدرالي "بول فولكر" فجأة برفع سعر الفائدة الرئيسي من 9% فقط في تشرين الأول 1979 إلى 20% في أيار 1980.
وبما أن معظم القروض التي حصلت عليها دول أمريكا اللاتينية في ذلك الوقت كان متعاقد عليها على أساس سعر الفائدة المتغير وليس الثابت، تسببت قرارات "فولكر" في إحداث صدمة للدول النامية التي ارتفعت الآن قيمة خدمة ديونها بشكل لا يعقل.
التخلف عن السداد لم يعد خياراً:
عن تلك الفترة يحكي وزير المالية المكسيكي السابق "سيلفا هيرزوج" كيف كانت تدور الكواليس فيقول: "في ذلك الوقت كنا نجتمع فنقول مثلاً أنه علينا أن نسدد غداً دفعة قدرها 40 مليون دولار إلى البنوك "س" و"ص" و"ع" ولكننا لم نملك سوى نصف ذلك المبلغ، فما العمل؟"
يتابع الوزير السابق حديثه قائلاً: "هذا معناه أننا في حاجة لاقتراض 20 مليون دولار لمدة 24 أو 48 ساعة من البنك "م" لتغطية التزاماتنا المالية. وحين يأتي الغد وتنتهي مهلة ذلك القرض سنحاول ساعتها التصرف بأي شكل". تلك كانت مقتطفات من الحوارات التي كانت تدور في كواليس الأزمة بين صناع السياسة المالية في المكسيك خلال ذلك الوقت.
السؤال الآن: المكسيك في وضع متأزم وتسير بخطى ثابتة نحو كارثة مالية، فلماذا لا تقوم ببساطة بتعليق مدفوعات الديون إلى البنوك الأجنبية كما فعلت العديد من الحكومات المكسيكية الأخرى في الماضي؟
ببساطة كان المسؤولون يدركون أن هذا الخيار لم يعد ممكناً وأن إقدام المكسيك على تلك الخطوة ستكون له عواقب خطيرة فورية من بينها -على سبيل المثال لا الحصر- امتناع القطاع المالي العالمي عن توفير خدمات الائتمان لها، واهتزاز الثقة بالقطاع الخاص المكسيكي الذي يعتمد بشكل كبير على الواردات. وما نحاول قوله هنا أن الشعب المكسيكي سيعاني حرفياً من مجاعة في حال اهتزاز ثقة الموردين بهم وامتناعهم عن توريد البضائع إلا تلك المدفوعة نقداً.
كان سبب الخوف الرئيسي أن تؤدي خطوة تعليق مدفوعات الديون إلى دفع الدائنين الدوليين إلى رفض منح أي قروض أخرى ليس للحكومة المكسيكية وحدها بل وللقطاع الخاص أيضاً، وهو ما سوف يتسبب حتماً في إحداث صدمة اقتصادية واجتماعية ستكون لها عواقب سياسية لا يمكن التنبؤ بها.
في الثلاثينيات كان مقرضو الحكومات مجرد مجموعة من البنوك والأثرياء غير المنظمين والذين لم يكن بإمكانهم إجبار الحكومات على أي شيء.
أما في الثمانينيات فكانت البنوك الكبرى تتصدر المشهد معاً وتحظى في نفس الوقت بولاء البنوك الصغيرة وكبار المستثمرين، أي أن القطاع المالي بالكامل يقف في مواجهة الحكومات كفريق واحد يعمل بشكل منسق وجماعي.
هذا معناه أنه إذا قررت المكسيك أو غيرها التخلف عن سداد ديونها لأي من البنوك الكبرى سيتحزب القطاع المالي العالمي بالكامل ضدها ولن يكون بمقدورها الحصول ولو على دولار واحد من أي مصدر بديل.
هذا أوضحه نائب رئيس "سيتي بنك" حين قال في خضم الأزمة: إن الدائنين ليسوا مجرد مجموعة من الأفراد الضعفاء بل هم مجموعة قوية تتكون من أكبر البنوك في العالم. وأي دولة ستقرر التخلف عن سداد ديونها ستجد النظام المصرفي بالكامل ضدها. لن يحصلوا على أي ائتمان على الإطلاق ولا حتى على المدى القصير".
باختصار... في العقود الأخيرة تعززت قوة الدائنين القائمة على امتلاك السوق نفسه والتصرف بشكل جماعي في مواجهة أي محاولة للتمرد على النظام من قبل أي دولة مهما علا شأنها.