ظاهرة الدولرة تتفاقم في لبنان مع فقدان الليرة قيمتها واعترافها كعملة رسمية
في تقريرٍ حديث نشرته جريدة "الأخبار" اللبنانية الشهيرة، اعتبر الصحفي "ماهر سلامة" أن المؤشّر الأساسي للأزمة في لبنان هو ظاهرة "الدولرة النقدية".
واعتبر أن الحدّ من هذه الظاهرة غير ممكن إلا بحلّ اقتصادي يعالج الشوائب البنيوية، وهو أمر لم تُظهر قوى السلطة أي نيّة في التعامل معه، بل هي تركّز على إعادة إحياء النموذج الذي أدّى إلى الأزمة، بكل الطرق المتاحة ولو كانت على حساب إعادة توزيع عكسية للثروة من الفقراء باتجاه الأغنياء.
ما هي ظاهرة الدولرة؟
ظاهرة الدولرة هي عملية استبدال العملة المحليّة بالدولار للقيام بالأدوار المحورية للمال في الاقتصاد. وكان اختيار العملة الأميركية أمرًا منطقيًا طالما أنها العملة المهيمنة على العالم حالياً.
من النادر أن هناك دولاً لجأت إلى استعمال الإسترليني أو اليورو أو أي عملة أخرى، خارج نطاق الاستعمار المفروض عليها. أما في الدول التي تعاني من الأزمات، فبحسب البنك الدولي، تلجأ إلى استعمال العملة الأجنبية بدلاً من العملة المحلية كنتيجة حتمية للأزمة. فالعملة المحلية فقدت كل أدوارها بما فيها الدور الأبسط كوسيط أو وحدة حساب، لتبادل السلع والخدمات.
الدولرة في لبنان، بهذا المعنى، ليست أمراً حديثاً، بل هي ظاهرة مترسّخة منذ عقود تغيّر شكلها بفعل الأزمة الراهنة، لتصبح الدولرة قائمة على "الدولار النقدي" بدلاً من الدولار المصرفي.
تاريخ الدولرة في لبنان:
لطالما كان الاقتصاد اللبناني عرضة لظاهرة الدولرة التي اجتاحته بعد كل أزمة، ولا سيما بعد الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975. وتمثّلت ظاهرة الدولرة بشكل أساسي من خلال حجم الودائع بالدولار في القطاع المصرفي اللبناني.
بعد انهيار الليرة في نهاية الثمانينيات، ظهرت دولرة الودائع في القطاع المصرفي، لأن الأفراد والمؤسسات لجأوا إلى تحويل أصولهم إلى الدولار باعتباره ملاذاً آمناً وضمانة عالمية لحفظ القيمة. في عام 1992 بلغت نسبة الدولرة في الودائع الخاصّة نحو 86.7%.
وبعد نهاية الحرب الأهلية والأزمة التي رافقتها تمت السيطرة جزئياً على سعر الصرف، فانخفض حجم الدولرة في الودائع ليبلغ 56.4% في عام 1997.
ملياً، لم يكن سهلاً، حتى بعد انتهاء الأزمة، التخلّي عن الدولرة. وقد استمر النمط نفسه حتى بعد عام 1997 حين أصبح سعر الصرف مثبتاً بقوّة تدخلات مصرف لبنان، على سعر مستهدف يُراوح بين 1501 ليرة، و1514 ليرة، أي 1507.5 ليرات لكل دولار.
ان يفترض أن الثقة بالعملة المحليّة قد عادت، إلا أنه مع ذلك، لم يتم التخلّي عن الدولار كعملة لحفظ القيمة. وهذا الأمر كان يظهر أيضاً في العمليات الائتمانية في القطاع المصرفي، حيث كانت القروض الخاصّة بالدولار تشكّل الجزء الأكبر من الديون.
ففي عام 2008 بلغت نسبة القروض بالدولار من إجمالي القروض نحو 85.1%، ومع أنها انخفضت لاحقاً، إلا أنها بقيت مرتفعة نسبياً، إذ بلغت في عام 2018 نحو 66.4%، الأقل في فترة ما بعد الحرب الأهلية.
ما الذي يؤجج ظاهرة الدولرة في لبنان؟
تظهر الدراسات المختلفة، أن التقلّبات الكبيرة في سعر صرف الليرة اللبنانية تُسهم مباشرة في تمدّد ظاهرة الدولرة. وذلك لأن هذه التقلبات تجعل العملات المحلية مصدرَ مَخاطر على المؤسّسات والتجار والأفراد.
فالتاجر الذي يبيع البضائع بالعملة المحلية في ظروف تتقلب فيها أسعار الصرف بشكل كبير، يُعرّض نفسه لمخاطر فقدان قيمة مبيعاته إذا ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل العملة المحليّة، أي قيمة رساميله.
لذا، يلجأ إلى التسعير بالدولار، وأن بعضهم يطلب تسديد ثمن السلعة أو الخدمة بالدولار أيضاً. كذلك هو حال الفرد الذي يحتفظ بمدّخرات يريد أن يحافظ على قيمتها، فيقوم بتحويلها إلى الدولار كي لا يُعرّض نفسه لمخاطر فقدان قيمتها. إنما في حالة الأزمة الراهنة، فإن التحويل جاء بعد سحب الودائع من المصرف، أي تخزين الدولارات النقدية.
كيف يمكن للبنان النجاة من متاهة الدولرة؟
بشكل عام، تؤكّد الدراسات أن إدارة الاقتصاد بشكل فعّال هي شرط مسبق للتخلّص من الدولرة في الاقتصاد، إذ يتطلب هذا الأمر استعادة دور العملة المحلية وإعادة الثقة بها. حيث لا تنتهي ظاهرة الدولرة إلا بعد معالجة اقتصادية تضع حدّاً للأزمة.
لذا، يكون العمل على جعل معدلات التضخّم مستقرّة ومنخفضة من العوامل التي تساهم في إعادة الثقة للعملة الوطنية، وبالتالي يقلّل الحاجة إلى استخدام العملات الأجنبية للحفاظ على القوة الشرائية.
وكخلاصة للكلام، يمكن القول إن استمرار ظاهرة الدولرة يعني أن لبنان لم يخرج، في العقود الثلاثة الماضية، من دائرة الأزمة، وأنه لن يخرج من هذه الأزمة بلا سياسة اقتصادية واضحة، علماً أن النتائج غير مضمونة. فالعلاج الاقتصادي لا يضمن نهاية الدولرة، ولا العودة عن اقتصاد الكاش.