لماذا تصر تركيا على مخالفة السواد الأعظم من بنوك العالم وخفض سعر الفائدة؟

على عكس غالبية بنوك العالم المركزية، وفي مخالفة للسياسة الاقتصادية العامة، تستمر تركيا بخفض سعر الفائدة بدلًا من رفعه، فيُثير إصرار الإدارة التركية على ذلك العديد من علامات الاستفهام، لا سيّما في ظلّ معاناة تركيا من معدلات تضخّم قياسية آخذة في التصاعد المستمر.

فيما يلي نستعرض عليكم وجهة نظر طرحها "أحمد ذكر الله" وهو أستاذ كلية الاقتصاد في جامعة الأزهر، لمناقشة سياسة الفائدة المنخفضة التي تسعى إليها تركيا.

ماذا استفادت دول العالم من رفع الفائدة؟

كنتيجة للقفزات الكبرى في معدلات التضخم في الاقتصادات المتقدمة والتي سجّلت مستويات قياسية لم تحدث طيلة أربعة عقود سابقة، فقد أقدمت العديد من البنوك المركزية الكبرى على اتباع سياسات نقدية متشددة كان رفع سعر الفائدة في مقدمتها، وذلك كمحاولة لكبح جماح التضخّم.

ويبدو جلياً أن هناك اتفاقاً بين تلك البنوك على أنّ رفع سعر الفائدة سيسحب نسبة كبيرة من السيولة المحلية الأمر الذي سيعمل على خفض النشاطين الاستهلاكي والاستثماري، وبالتالي من المتوقع أن يخفض الأسعار كنتيجة منطقية لانخفاض الطلب الكلي.

ورغم عدم إحداث نتائج ملموسة بشأن خفض معدلات التضخم في أيّ من الدول التي اتبعت سياسة خفض سعر الفائدة المستمر منذ عدة أشهر فائتة، وعلى الرغم من التحذيرات المتصاعدة من تحول نتائج تلك السياسات نحو الانكماش وربما الركود، إلا أن سياسة الخفض لا تزال مستمرة في ظلّ حالة من الارتباك الواضح للإدارة الاقتصادية في معظم دول العالم، خاصة في ظلّ الانخفاضات المتوالية للعملات العالمية في مقابل الدولار، وهو الأمر الذي سبّب مزيداً من الاشتعال لمعدلات التضخم.

وجهة النظر التركية:

شكل سعر الفائدة نقطة خلاف رئيسية بين إدارة الرئيس "أردوغان" ومحافظي البنك المركزي التركي المتتابعين، وهو الأمر الذي دفع الرئيس لاستخدام صلاحياته الدستورية بإقالة ثلاثة محافظين متتالين.

وتجدر الإشارة بداية إلى أن هذا التوجه التركي لم يكن انفعالياً أو ردة فعل للأوضاع الاقتصادية العالمية الحالية، بل كان موقفاً مبدئياً معلناً منذ عدة سنوات، حاولت الإدارة التركية خلالها خفض معدلات الفائدة.

ووقفت الظروف العالمية وفي مقدمتها تداعيات فيروس كورونا حائلاً دون تحقيق ذلك بمعدلات كافية، وصمدت الإدارة التركية في مواجهة سهام النقد الحادة التي وجّهت إليها من البنوك المركزية الكبرى التي اتبعت سياسات تيسيرية تسببت فيما يعانيه العالم الآن.

ومنذ أيام عبّر الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان"، عن أمله في أن تُقدم لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي على خفض آخر لسعر الفائدة الشهر المقبل، والنزول بالسعر إلى خانة الآحاد نهاية العام، مضيفاً أن بلاده تهدف إلى تعزيز الليرة من خلال خفض أسعار الفائدة.

وأضاف أن تركيا ستواصل خفض أسعار الفائدة وليس رفعها، مكرراً وجهة نظره غير التقليدية القائلة إن انخفاض أسعار الفائدة سيؤدي إلى انخفاض التضخّم، داعياً الأتراك إلى الاستفادة من الأسعار المنخفضة للقيام باستثمارات.

وكان البنك المركزي قد خفض على نحو غير متوقع سعر الفائدة 100 نقطة أساس مرتين الشهرين الماضيين، لينزل بها إلى 12%، على الرغم من بلوغ التضخّم 83.45% في أغسطس/آب الماضي، وهو أعلى مستوياته خلال 24 عاماً.

ويعزو المركزي التركي قرارته بخفض سعر الفائدة إلى المؤشرات المستمرة على التباطؤ الاقتصادي، ويعتقد كثيرون أن التيسير النقدي يأتي استجابة لجهود الرئيس التركي لخفض تكاليف الاقتراض لزيادة الصادرات والاستثمار.

بين الآمال والواقع.. هل أصابت تركيا بمخالفتها للعالم؟

واقعياً، لم تنجح سياسات رفع سعر الفائدة في كبح جماح التضخم حول العالم، بل بدأ الكثير من التحذيرات حول العالم من التداعيات السلبية لتلك السياسة على مستويات النشاط الاقتصادي، ففي تصريحات لوكالة "بلومبرغ"، أكد عميد هارفارد بيزنس السابق "محمد العريان" أن وقوع الاقتصاد الأمريكي تحت وطأة الركود التضخمي أمر حتمي، فهناك تباطؤ في النمو الاقتصادي بالتزامن مع تسارع في معدل التضخم.

كما صرّح" جو بروسويلاس"، كبير الاقتصاديين في RSM US LLP، أن "خطر حدوث ركود آخذ في الارتفاع بسبب سلسلة صدمات العرض المتتالية".

آراء الخبراء السابقة مجرّد أمثلة للعديد من الآراء التي تؤكد ذات التوجه، وتؤكد كذلك وجهة نظر الإدارة التركية بمخالفة العالم والتوجه نحو خفض الفائدة، وعملياً تجدر الإشارة إلى أن الحصاد التركي جراء عدم السير في التيار العالمي هي التزايد المضطرد لمعدّل النمو والذي بلغ 7.5 - 7.6 في المئة خلال الربعين الأول والثاني من العام الجاري.

كما حققت الصادرات التركية طفرات قياسية خلال الأعوام الأخيرة، حيث سجّلت 225 مليار دولار العام الماضي ارتفاعاً عن 185 مليار دولار في عام 2020، وتشير الأرقام حتى الآن إلى الاحتمالية الكبرى بتجاوزها حاجز 250 مليار دولار بنهاية العام الحالي، وتأمل الإدارة التركية بتحقيق هدف مليار دولار صادرات يومية بنهاية العام القادم.

يختتم الكاتب قائلًا: "تمتلك الإدارة التركية رؤية رشيدة حول سياسة خفض سعر الفائدة، وقد أثبتت المعطيات العالمية عدم جدوى الرفع المتوالي في معالجة التضخم، بل وتأثيراته السلبية على مستويات النشاط الاقتصادي والاحتمالات المتصاعدة لتسببه في الركود، كما أثبتت المعطيات المحلية التركية جدوى خفض سعر الفائدة في شحذ الاستثمار والنمو والصادرات، وهو الأمر الذي يؤكد رشاد التوجه التركي لا سيما في ظلّ إقدام الدولة على الرفع المتوالي للحدّ الأدنى للأجور لمواجهة معدلات التضخم المتصاعد".