وُصِف بالفكرة المجنونة... قصة مشروع قناة إسطنبول الذي أزعج أوروبا وروسيا معًا

قبل بضع سنوات، أعربت تركيا عن اعتزامها شق "قناة إسطنبول المائية" في الجانب الأوروبي من المدينة، بعد أن تحول مضيق البوسفور في إسطنبول إلى أحد أكثر المضائق البحرية حساسية بالنسبة لسفن شحن البضائع، نتيجة الازدحام المروري الحاصل فيه.

هذا المشروع الذي وصفه الرئيس التركي بـ "مشروع العصر"، تسبب بالكثير من الجدل على الصعيد الداخلي، ولم تخف قوى دولية عديدة مخاوفها منه.

وستربط "قناة إسطنبول" البحر الأسود ببحر مرمرة، وستكون موازية لمضيق البوسفور، ويطمح الرئيس التركي "رجب الطيب أردوغان" من خلالها في أن تكون رافعة للاقتصاد التركي ومصدرا ثريا لليورو والدولار.

"المشروع المجنون"... كيف حصل على هذا الوصف؟

قناة إسطنبول - ويكيبيديا

مع أن الحكومة التركية قدرت تكلفة المشروع بنحو 25 مليار دولار، فإن المعارضة تتوقع أن تزيد التكلفة عن 75 مليار دولار، كما تشكك في حجم العائدات التي يمكن أن تعود على الاقتصاد التركي من وراء هذا المشروع.

وتهاجم المعارضة المشروع بسبب ما تقول إنه سيتسبب في كوارث بيئية بالنسبة لمدينة إسطنبول، كما أنه سيقسم المدينة إلى 3 أقسام، ويتسبب في أزمات خانقة.

كما هاجم ضباط أتراك متقاعدون المشروع واصفين إياه بـ "المجنون"، وقالوا إنه سوف يهدد اتفاقية مونترو الموقعة عام 1936، التي تضمن مرور السفن المدنيّة في مضيق البوسفور في أوقات الحرب والسلم.

قد لا تسري الرياح كما تشتهي سفن الأتراك:

مع أن "إبراهيم فهمي"، الخبير في صناعة النقل البحري وزميل المعهد البريطاني للهندسة البحرية، اعتبر في حديثه لوكالة "الجزيرة"، أن مشروع "قناة إسطنبول" يأتي في سياق الإستراتيجية الاقتصادية التركية ويتكامل مع مشاريع بحرية وبرية كبرى أقامتها تركيا في السنوات الأخيرة، وسيساهم في تشكيل رافعة للاقتصاد التركي مستقبلا، حسب رأيه، فإنه تحدث عن تحديات تشكّل خطورة على المشروع.

ومن هذه التحديات، وفق قوله، تكلفة المشروع الحقيقية، إذ أبدى مخاوفه من اضطرار تركيا لزيادة التكلفة المعلنة خاصة إذا رأى الخبراء أنهم بحاجة لزيادة عمق أو عرض القناة.

كما تحدث "فهمي" عن تحديات الوقت وإنجاز المشروع بالتاريخ المعلن عنه، وهو عام 2027، مبديًا خشيته من عدم تحقيق المشروع في الوقت المحدد، وهو الأمر الذي سيجبر تركيا في ذلك الوقت على الرضوخ لطلبات المقاولين، وقد تلجأ لمقاولين من الباطن، مما يعني في النهاية زيادة التكلفة عليها.

لكن عميد جامعة بيري البحري وأستاذ الاقتصاد "أورال أردوغان"، قد أكد أن تركيا رصدت الميزانية اللازمة لقناة إسطنبول، وأنها احتاطت لأي مفاجآت قد تظهر خلال تنفيذ المشروع.

وأوضح أن الحكومة التركية سوف تعتمد في الجزء الأكبر من تمويل المشروع على القطاعين العام والخاص بالبلاد، وأنها قد تفتح مجالا بسيطا للأطراف الدولية التي قد ترغب في الاستثمار بالقناة الجديدة.

كما أنه لم ينكر منطقية مخاوف المعارضة التركية المتعلقة بالآثار البيئية والازدحام الذي قد تتسبب فيه القناة، لكنه أكد أن وجود المخاوف من تبعات المشروع لا يعني بالضرورة التخلي عنه، وإنما يستدعي البحث عن حلول لأي مشاكل قد تظهر مستقبلا.

مشروع يزعج الحلفاء والأعداء:

على الرغم من اعتبارها تركيا كدولة صديقة، فلا تخفي روسيا مخاوفها من أن تؤدي هذه القناة إلى وصول السفن الحربية الأوروبية إلى حدودها، وهو الأمر الذي قد يتسبب في إثارة أزمات دولية كبرى.

في حين تسعى الصين لتحقيق مكاسب اقتصادية، إذ بادرت لعرض المساهمة المادية في المشروع، وهو الأمر الذي قد يوقع تركيا في حرج كبير مع حليفتها الولايات المتحدة الأميركية، التي تعتبر الصين خصما لدودا لها يهدد مصالحها الاقتصادية.

وقد وصفت صحيفة هآرتس على لسان المحلل "تسيفي برئيل" مشروع قناة إسطنبول، الذي يتبناه الرئيس التركي "أردوغان" بأنه "سبيل تركيا لترويض أوروبا وروسيا وأمريكا في آن واحد".

وأوضح "برئيل"، أن الاتحاد الأوروبي ظل لأكثر من 6 أشهر يناقش كيفية الرد على تنقيب تركيا عن النفط والغاز في مياه البحر المتوسط التي تدعي اليونان ملكيتها، لكن التحذيرات والتهديدات ذهبت سدى، رغم تنصيب رئيس أمريكي جديد يدعم مطالب أوروبا، بسبب الخشية من أن يرد "أردوغان" على أي عقوبات عبر إغراق أوروبا باللاجئين.

ومن شأن إتمام مشروع قناة إسطنبول أن يعزز نفوذ تركيا إلى البحر المتوسط ومكانتها في مجال النقل والشحن البحري، الأمر الذي يقوي موقفها إزاء المعارضة الأوروبية، بحسب المحلل.

وتحتاج تركيا أيضا إلى ورقة ضغط إضافية في علاقاتها مع روسيا، بخلاف احتضانها لأوكرانيا، وهنا يأتي دور قناة إسطنبول، التي تربط البحر الأسود ببحر مرمرة.

فالمشروع، الذي طالما حلم به "أردوغان" في تسعينيات القرن الماضي، يرجع ذلك أساسًا إلى الحجم الهائل لحركة المرور البحرية عبر مضيق البوسفور، الذي تحكمه اتفاقية "مونترو" لعام 1936.

وتقيد هذه الاتفاقية المرور عبر المضيق عبر حصر كميات البضائع وأنواع السفن المسموح بمرورها، الأمر الذي يضمن لروسيا عدم انتقال السفن الحربية الكبيرة من البحر المتوسط إلى البحر الأسود.

 في المقابل، يتيح مشروع قناة إسطنبول لتركيا وضعا جديدا تمثل فيه سلطة التحكم الوحيدة في حركة المرور والبضائع المارة، بما في ذلك السماح بمرور السفن الحربية، ما يمثل تهديدا لروسيا، باعتبار تركيا عضوا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ما يعني إمكانية نقل دول الحلف، ومنها أمريكا، لأسلحة بحرية عبر القناة.

وبينما يُعد هذا التطور ظاهريًا أخبارًا جيدة للولايات المتحدة، إذ ستكون قادرة، مقابل السعر المناسب، على إرسال سفنها الحربية إلى البحر الأسود إذا اندلعت حرب مع روسيا، إلا أنها ليست أخبارا جيدة في المطلق، إذ ستضطر واشنطن في المقابل إلى تقديم تنازلات كبيرة لتركيا.