سبب خفي لانهيار الليرة... سندات الخزينة تفترس جيوب السوريين بدون رادع

استمرت الحكومة بالاعتماد على سندات الخزينة لأجل تضخيم السيولة في السوق طوال الفترة الماضية، حيث كشف "أنس علي"، مدير الإيرادات في وزارة المالية أن موعد المزاد الثالث على سندات الخزينة سيكون في شهر تشرين الأول القادم، وأن القيمة المطروحة للاكتتاب على السندات وفق الروزنامة التأشيرية لهذا العام تصل إلى 600 مليار ليرة سورية.

وأذونات وسندات الخزينة هي أدوات دين حكومية تصدرها "وزارة المالية"، وتعتبر الأذونات قصيرة الأجل وتتراوح مدتها بين 3 أشهر إلى سنة، وعادة ما تلجأ إليها الحكومات لتمويل احتياجاتها الطارئة كسد عجز موازناتها، أما السندات فهي طويلة الأجل، وقد يصل موعد استحقاقها إلى حوالي 10 سنوات أو أكثر.

ويدعي "علي" أن التداول على سندات الخزينة سيكون له أثر إيجابي على التضخم من خلال توظيف تلك السندات بفرص استثمارية بعيدا عن المخاطرة.

حيث قامت "وزارة المالية" بمزادين خلال العام الحالي، الأول في شهر آذار الماضي بقيمة 200 مليار ليرة سورية، والثاني خلال شهر آب بقيمة 300 مليار ليرة سورية.

وبحسب إعلان الوزارة عن نتائج المزاد الثاني في آب الحالي، بلغ حجم السندات المخصصة 227.6 مليار ليرة سورية، وفاز بالمزاد سبعة عارضين، من أصل تسعة شاركوا بالمزاد عبر تقديم 23 عرضًا، منهم أربعة من المصارف الحكومية، ومصرفان خاصان، بينما قُدم العرض الأخير من قبل العملاء.

الجدير بالذكر أن شراء البنوك الحكومية للسندات الحكومية هو أمرٌ مشابه لسياسة التيسير الكمي التي تتبعها بعض الدول المتقدمة اقتصاديًا وعلى رأسها الولايات المتحدة.

لكن قواعد اللعبة لا تنطبق نفسها على الدول النامية والمتخلفة؛ فلما كانت أمريكا قادرة على خلق الأموال من العدم وفرض الاعتراف بها رغم ذلك، إلا أنها ومع كونها أكبر اقتصاد في العالم، لم تنج من أثار هذه السياسة المدمرة.

أما في سوريا فالأمر مختلف للغاية، إذ أن طرح السندات والدين الداخلي وضخ السيولة، كلها تصرفات "ساذجة اقتصاديًا ومهلكة"، إلا لو ترافقت مع زيادة في الإنتاج ونمو حقيقي في حجم الاقتصاد، وهو ما لا يمكن تصوره في وضع الاقتصاد السوري الحالي.

ما المشكلة في طرح سندات الخزينة ودعم مؤسسات الدولة بالسيولة؟

سيؤدي هذا الحل السريع المطبق بغية تأمين السيولة ودعم خزينة الدولة، إلى إغراق السوق بتدفقات نقدية لا يقابلها عرض مواز من السلع والخدمات لامتصاصها، وبالتالي ترتفع نسب تضخم بشكل متسارع بدون أي رادع أو حل لإيقافها، ومن ثم فالاستمرار باتباع هذه السياسة سيجعل الاقتصاد السوري يأكل من نفسه كل مرة حتى لا يموت من الجوع، فالدين الداخلي لا يزيد الإنتاج ولا ينعش الاقتصاد وهو حل مؤقت سريع لا يصلح لأن يعامل كسياسة نقدية يتم تطبيقها طوال سنوات كما يحدث في سوريا.

وباختصار، لما كان طرح السندات وضخ السيولة لا يترافق مع زيادة فعلية بالإنتاج أو نمو اقتصادي ملحوظ، سيعني ذلك تآكل للقدرة الشرائية وفقدان العملة قيمتها في جيوب الناس، ثم انخفاض سريع في سعر صرف الليرة مقابل الدولار.

لكن الواقع أن الحكومة والجهات المعنية تتجاهل هذه الأخطاء الاقتصادية وتغض الطرف عنها، لتتحدث عن أسباب أخرى لانهيار الليرة، كالمضاربة والتلاعب وطمع التجار.

كيف دخلت سوريا في ورطة الدين الداخلي المهلكة؟

أدلى الصحفي "زياد غصن"، بتصريحات لافتة عن ماهية هذا الفخ الذي وقعت فيه الحكومة السورية، أو بالأحرى – كما قد يفسر البعض الأمر – الذي أوقعت الاقتصاد السوري به حتى تحافظ على قوتها وزخمها الاقتصادي بشكل كافي لخوض الحرب على حساب التضخم والغلاء الفاحش الذي أرهق كاهل البلاد والعباد.

بعد الاتفاق السوري – الروسي الشهير قبل ما يقارب خمسة عشر عاماً، المتعلق بتسوية كتلة الديون المترتبة على الحكومة السورية لصالح الاتحاد السوفياتي السابق، استطاعت سوريا الدخول في قائمة الدول الأقل مديونية خارجية.

لكن الحرب السورية الأخيرة استطاعت قلب هذه المعادلة ليغرق البلد بالديون الداخلية والخارجية أيضاً، وبحسب أحدث إحصاءات "المركز السوري لبحوث السياسات"، فقد ارتفع إجمالي الدين العام من حوالي 30% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010، إلى حوالي 208% في عام 2019.

كان واضحاً جلياً للحكومة السورية، منذ بداية اشتعال الحرب، أن بعض أطراف الصراع في الساحة السورية تسعى لتجفيف مصادر إيرادات الخزينة الحكومية، عن طريق فرض السيطرة على العديد من إيرادات الاقتصاد السوري أهمها صادرات النفط والفوسفات وباقي الثروات التي كانت مصدر مهم للقطع الأجنبي.

وكان واضحاً أيضاً أن اتباع هذه السياسة من قبل بعض أطراف الصراع سيكون بهدف إجبار الحكومة على إحدى الأمرين: إما فقدان السيطرة الاقتصادية على البلد وخروج ذمام الأمور من أيدي المسؤولين وبالتالي انهيار اقتصادي عسكري سياسي سيحسم الحرب، أو دفعها إلى الاقتراض الداخلي والخارجي وإغراقها في مستنقع التضخّم والغلاء.

أما الحكومة السورية قامت بدورها بشكل يصفه مراقبون "بالساذج" باختيار الوقوع في الفخ الثاني، ليس بسبب أنه لم يكن أمامها سوى هذين الخيارين، بل لأنه كان ببساطة الطريق الأسهل ومن سيكابد العناء ويتحمل الأمرين بسبب التضخم والغلاء الفاحش الذي سيقود هذا الطريق بشكل بديهي إليه هو الفئة البسيطة من الشعب السوري.

ووفقاً لدراسة صادرة عن «مركز دمشق للدراسات والأبحاث»، فإن قيمة الدين الداخلي وحده وصلت مع نهاية عام 2015 إلى حوالي 3400 مليار ليرة، فيما تشير بعض التقديرات إلى ارتفاع الرقم إلى حوالي 7 آلاف مليار ليرة بنهاية عام 2019، وذلك بدون الحديث عن أزمة 2020 الأخيرة التي أتى بها قانون قيصر.