خمس كوارث أصابت الاقتصاد العالمي في عصرنا الحديث وغيرت شكله إلى الأبد

يعتقد البعض أن الأزمة الاقتصادية الحاصلة في الوقت الراهن هي أشد وأعتى ما مر بتاريخ الاقتصاد العالمي الحديث، مستشهدين على ذلك بتتابع كوارث عديدة بدايةً من حلول الجائحة، وليس نهايةً بحرب أوكرانيا وخطر الركود التضخمي.

لكن الواقع أن تاريخ الاقتصاد العالمي الحديث يحمل في جعبته أزماتٍ تجعل ما نعيشه الآن يبان أمامها مشكلة بسيطة لا غير، ونذكر من أهمها:

أولًا: أزمة الائتمان سنة 1772

نشأت هذه الأزمة في لندن وانتشرت بسرعة إلى بقية أوروبا في منتصف ستينيات القرن الثامن عشر، حين جمعت الإمبراطورية البريطانية ثروة هائلة من خلال ممتلكاتها وتجارتها الاستعمارية.

هذا التجميع للثروة أشاع هالة من التفاؤل المفرط وفترة من التوسع الائتماني (التسليف) السريع من قبل العديد من البنوك البريطانية، لكن الضجيج انتهى فجأة في 8 يونيو/حزيران 1772، عندما فر أحد أكبر شركاء البيت المصرفي البريطاني "نيل وجيمس وفورديس وداون"، إلى فرنسا هربا من سداد ديونه.

تسببت هذه الصدمة بحالة من الذعر المصرفي في إنكلترا، حيث بدأ الدائنون في تشكيل طوابير طويلة أمام البنوك البريطانية مطالبين بسحب نقدي فوري.

وما لبثت الأزمة أن امتدت كالأخطبوط بسرعة إلى اسكتلندا وهولندا وأجزاء أُخرى من أوروبا والمستعمرات البريطانية الأميركية.

وزعم المؤرخون أن التداعيات الاقتصادية لهذه الأزمة كانت أحد العوامل الرئيسية المساهمة في احتجاجات "حزب شاي بوسطن" والثورة الأميركية.

ثانيًا: الكساد الكبير بين 1929 و1939

يتفق العديد من المختصين أن هذه هي أسوأ كارثة مالية واقتصادية شهدها القرن العشرون، ويعتقد الكثيرون أن الكساد الكبير نتج من انهيار بورصة "وول ستريت" عام 1929، وتفاقم لاحقا بسبب القرارات السياسية السيئة التي اتخذتها الحكومة الأميركية لمعالجة الأزمة.

واستمر الكساد نحو 10 سنوات مسفرا عن خسائر فادحة في الدخل، ورافعا البطالة إلى معدلات مرعبة، ومقوّضا عجلة الإنتاج، خاصة في الدول الصناعية، ليبلغ معدل البطالة في الولايات المتحدة 25% تقريبا في ذروة الأزمة عام 1933.

يُجادل العديد أنّ أزمة الكساد الكبير تفاقمت بسبب بنك الاحتياطي الفيدرالي، إذ رفع البنك أسعار الفائدة؛ ممّا سبب المزيد من الكساد في الإقراض، واعتقد البنك بأنّ خفض المعروض النقدي كان ضروريًا للحفاظ على معيار الذهب الذي تربط بموجبه العديد من البلاد قيمة عملتها بكمية ثابتة من الذهب، إلّا أنّ خفض المعروض النقدي أدى إلى انخفاض الأسعار؛ ممّا أدى إلى كساد الإقراض، والاستثمار، وفاقم مشكلة الكساد الكبير.

ثالثًا: صدمة النفط العربي عام 1973

بدأت هذه الأزمة عندما قررت الدول الأعضاء في "منظمة البلدان المصدرة للبترول" (أوبك)، التي كانت تتكوّن أساسا من الدول العربية المنتجة للنفط، الانتقام من الولايات المتحدة ردا على إرسالها إمدادات أسلحة إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي خلال ما يُعرف بـ"الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة".

فقد أعلنت دول "أوبك" وقتها حظرا نفطيا، وأوقفت فجأة صادرات النفط إلى الولايات المتحدة وحلفائها، ما تسبب في نقص نفطي كبير وارتفاع حاد لأسعار البترول ومشتقاته، وأدى إلى أزمة اقتصادية في الولايات المتحدة والعديد من بقية البلدان المتقدمة.

ما كان فريدا في الأزمة التي تلت ذلك هو حدوث تضخم مرتفع للغاية في وقت واحد ناجم عن الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة والركود الاقتصادي بسبب الأزمة الاقتصادية.

ونتيجة لذلك، أطلق الاقتصاديون على هذه الحقبة اسم فترة stagflation بما يعني "التضخم المصحوب بالركود" stagnation plus inflation، واستغرق الأمر عدة سنوات حتى يتعافى الإنتاج وينخفض التضخم إلى مستويات ما قبل الأزمة.

رابعًا: الأزمة الاقتصادية الآسيوية عام 1997

اندلعت هذه الأزمة في تايلاند عام 1997 وما لبثت أن انتشرت سريعا إلى بقية دول شرق آسيا وشركائها التجاريين.

فقد أدت تدفقات رأس المال المضاربة من البلدان المتقدمة إلى اقتصادات شرق آسيا في تايلاند وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية، المعروفة آنذاك باسم "النمور الآسيوية"، إلى حقبة من التفاؤل أدى إلى زيادة مفرطة في الائتمان والكثير من الديون المتراكمة في تلك الاقتصادات.

وفي يوليو/تموز 1997، اضطرت الحكومة التايلاندية إلى التخلي عن سعر الصرف الثابت لعملتها "البات" مقابل الدولار الأميركي بعدما حافظت عليه لفترة طويلة، مشيرة إلى نقص موارد واحتياطيات النقد الأجنبي.

وأدى ذلك إلى موجة من الذعر في الأسواق المالية الآسيوية وسرعان ما أدى إلى هروب واسع النطاق لمليارات الدولارات من الاستثمار الأجنبي إلى خارج هذه الدول.

ومع انتشار الذعر في الأسواق وتزايد قلق المستثمرين من الإفلاس المحتمل لحكومات شرق آسيا، بدأت المخاوف من الانهيار المالي العالمي تنتشر، ثم استغرق الأمر سنوات حتى تعود الأمور إلى طبيعتها.

وكان على "صندوق النقد الدولي" أن يتدخل لإنشاء حُزم إنقاذ للاقتصادات الأكثر تضررا من أجل مساعدة تلك البلدان على تجنب التخلف عن السداد.

خامسًا: أزمة الرهن العقاري بين عامي 2007-2008

تعتبر أشد أزمة مالية منذ "الكساد الكبير"، وكانت كفيلة بتدمير العديد من الأسواق المالية والكيانات الضخمة حول العالم.

أدت الأزمة التي أثارها انهيار فقاعة الرهن العقاري المرتبط بسياسة الإسكان في الولايات المتحدة، إلى انهيار مصرف "ليمان براذرز" الذي كان أحد أكبر البنوك الاستثمارية في العالم، ودفعت بالعديد من المؤسسات المالية والشركات الرئيسية إلى حافة الانهيار، وتطلبت من السلطات التدخل بعمليات إنقاذ حكومية بمبالغ غير مسبوقة في التاريخ.

واستغرق الأمر ما يقرب من عقد من الزمن حتى تعود الأمور إلى طبيعتها، بعد القضاء على ملايين الوظائف ومليارات الدولارات من المداخيل.

وقد عاد كابوس هذه الأزمة مؤخرًا إلى أذهان العالم مع حادثة شركة "إيفرجراند" الصينية للعقارات، لكن الصين استطاعت احتواء تداعيات الأمر (للآن على الأقل) وتم تلافي تكرار الكابوس.