الأسباب الحقيقية لتدهور الليرة بعد استقرارٍ طويل... القضية ليست مضاربة أو تلاعب
يعكس تدهور الليرة السريع الحاصل مؤخرًا عمق وفداحة المشاكل الاقتصادية في سوريا، التي كانت الحكومة تحاول "طمرها والتغاضي عنها" كما يؤكد الخبراء.
لكن السؤال الذي يجول في أذهان الكثير من الناس حاليًا، هو عن سبب حدوث هذا التغير الكبير والمفاجئ الآن خصيصًا بعد فترة طويلة من الاستقرار. فلماذا لم نشهد انهيارًا لليرة في بداية أزمة أوكرانيا أو مع انهيار الروبل الروسي مؤقتًا قبل بضعة أشهر، أو حتى عندما بلغ التضخم في مختلف دول العالم أرقامًا ضخمة وتاريخية مما أثر على العملات النامية (كالجنيه والليرة التركية) وأضر بها؟
الجواب عن هذا السؤال، وشرح الأسباب الحقيقية لانهيار الليرة، سيتم تناوله بوضوح وشرحه بالتفصيل فيما يلي:
هل سبب تدهور الليرة هو المضاربة كما تزعم الحكومة؟
تعرف المضاربة على العملة بأنها صيغة تبادل تجري في سوق تداول العملات، وليس لها أي علاقة بحركة المبادلات التجارية (بضائع وخدمات).
يندرج في تفاصيل المضاربة، عمليات شراء عملة محددة، مع نية بيعها مجددًا في وقت مواتٍ تكون فيه قيمة العملة المشتراة مرتفعة، ما يحقق ربح سريع لصاحبها.
وغالبًا ما تكون المضاربة هي المتهم الأول بالنسبة للجهات الرسمية في سوريا، التي تقابل الأمر بالوعيد والتهديد لكل من يتلاعب بأسعار الصرف.
أما الحقيقة فهي أن المضاربة كانت عذرًا يمكن استخدامه في الماضي، لكن تداولات السوق السوداء اليوم محكومة بقبضة أمنية شديدة وهي على نطاق ضيق وأضعف من أي وقتٍ مضى. وذلك بسبب التعامل الأمني الشديد والإجراءات التعسفية بحق كل من تشتبه الحكومة بتعامله بالدولار.
ولو كان الأمر برمته يتعلق بالمضاربة فحسب، لماذا لا تقوم الحكومة بتعويم الليرة لتقضي بذلك على السوق السوداء، ونرى حينها هل ستختفي مشاكل الليرة وتتحسن أسعار الصرف؟
الحكومة التي تدّعي الحفاظ على الليرة هي من تتسبب بانهيارها:
أمام الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي تضرب بالبلد من كل حدبٍ وصوب، يصر مسؤولو الحكومة على التعامل بالعقلية ذاتها وارتكاب الأخطاء نفسها مرارًا وتكرارًا.
فباستثناء الأدوات الأمنية والسياسة القمعية التعسفية، تفتقر الحكومة لأي أدوات مالية سريعة الأثر في سعر الصرف، وأي خطط اقتصادية يمكن تطبيقها بشكل علمي وفعال. حيث اعتبرت إحدى الصحف الحكومية أن "التلويح بالعصا قد يؤتي أُكُله بشكل جيد" في حال شمل كل المضاربين الكبار قبل الصغار، لردعهم ريثما تعزز أركان الإنتاج وتقوى أواصره.
كان ضخ الدولار حلًا سريعًا في الماضي، لكن الخزينة الخاوية لم تعد تساعد حاليًا، وكذلك لم تعد البنوك العامة والخاصة جاذبة لأصحاب رؤوس الأموال، بغض النظر عن سعر الفائدة.
أما بالنسبة لموضوع بيع سندات الخزينة الذي طُرح مؤخرًا، فكان الفشل نصيب المصرف، حيث أحجمت بعض البنوك الخاصة وشركات الوساطة المالية عن المشاركة في المزاد العلني الذي أقيم قبل أيام، رغم إلزام الحكومة للبنوك على الاكتتاب.
ويرى الخبراء أن حلول الحكومة "غير الاقتصادية" تبقى من دون معنى، في ظل تعطل الإنتاج وعدم توفر السلع وزيادة نسب التضخم، وخاصة وأن سعر الدولار في السوق ليس حقيقياً، وإنما هو نتيجة التقييد وسياسة خنق الأسواق.
مواضع إنفاق القطع الأجنبي تزداد وموارد الحصول عليه تنقص:
يرى المحلل المالي "علي الشامي"، أن حرب أوكرانيا نالت "بشكل كبير" من توريد القمح والنفط الخام من روسيا إلى سورية، ما ألزم الحكومة بالبحث عن موارد جديدة والدفع الكاش، الأمر الذي أرهق الخزائن وبدد بعض القطع الأجنبي فاختل السوق.
ويضيف "الشامي" في حديثه لصحيفة "العربي الجديد" أن التحويلات الخارجية، قبل العيد وخلاله، هي التي أسعفت الليرة السورية ومنعتها من التهاوي، مقدراً حجم التحويلات بأكثر من 8 ملايين دولار يومياً، بعد زيادة أعداد المهجرين السوريين وتوزعهم على دول الجوار والقارة الأوروبية.
ويقول: "رأينا زيادة دخول القطع الأجنبي للسوق السورية بعد رفع شركات الصرافة أسعار التصريف لموازاة السوق الهامشية" ولكن، منذ بدْء تراجع حجم التحويلات واستمرار الطلب على الدولار، عاودت الليرة التراجع.
ولعل أزمات المحروقات وما حدث أخيرًا من رفع أسعار البنزين وتخفيض الدعم عن بعض السلع هو أبرز دلالة على أن الحكومة باتت أقل قدرة على إنفاق القطع الأجنبي لشراء الموارد الأساسية التي يحتاجها أي بلد.
إضافةً إلى كل ذلك فإن أكبر موضع لصرف القطع الأجنبي يتمثل بارتفاع سعر السلع المستوردة، وصعوبة الحصول عليها، في ظل ضعف الإنتاج المحلي وعجزه عن تغطيه حتى أدنى حاجات البلد.
ضخ كميات كبيرة من النقود وفقدان الليرة السورية إحدى وظائفها كعملة:
يرى مراقبون أن من أحد أسباب تدهور الليرة الحاصل مؤخرًا هو طباعة أو ضخ كميات كبيرة من العملة السورية في الأسواق، وذلك بهدف شراء المحاصيل الزراعية وفي مقدمتها القمح من الفلاحين. وهذه الزيادة في الكتلة النقدية لم تجد في المقابل زيادة في عائدات التصدير أو في كميات الإنتاج، فالأموال التي يتم طباعتها تصبح فريسة للتضخم والغلاء وتعزز تدهور القيمة الشرائية للناس.
لدينا أيضًا المخاوف المحقة التي تملكت الشعب السوري عندما رأى استمرار الغلاء وجنون الأسعار بدون رادع. ونظرًا لمعرفة الجميع أن سعر صرف الليرة الحالي غير عادل وأنه نتيجة قمع وخنق الأسواق، وفهمهم أن السعر الطبيعي للعملة السورية أقل من ذلك بكثير، خلق ذلك توجهًا شعبية للطلب على الدولار والتخلص من الليرة السورية التي يعتقدون أن أيام صمودها ضمن نطاق الاستقرار باتت معدودة.
هذا التوجه الشعبي الحاصل بشكل تلقائي تسبب بزيادة الطلب على الدولار وزيادة الكتلة النقدية لليرة بالسوق التي أصبحت كالسلعة الكاسدة فلا يرغب أحد بالاحتفاظ بها، ومن يمتلكها لا يجرؤ على تخزينها، مما يعني أن العملة السورية فقدت وظيفتها كمخزن للقيمة، وباتت أداة تداول مؤقتة لشراء السلع لا أكثر.