ظهر مؤسسها باكيًا ذليلًا أمام الإعلام ثم حولها لأغنى بلد بالعالم... قصة نهوض سنغافورة

رغم أنها الأصغر مساحة في جنوب شرق آسيا (يسميها البعض النقطة الحمراء لضآلة مساحتها)، ولا تمتلك موارد طبيعية على الإطلاق، فإن سنغافورة هي بلد مزدهر يفرض نفسه في مجالس الاقتصاد والسياسة وحتى في المجالات العسكرية كأحد أغنى البلدان وأكثرها تطورًا في العالم.

لكن هذا التطور يخفي وراءه فترة تتجاوز الأربعين عامًا من الفقر والتخلف، فلم تكن النهضة السنغافورية وليدة اللحظة بل كانت نتاج جهود جبارة من قبل من يعتبر على أنه بطل الدولة السنغافورية ومؤسسها "لي كوان يو".

ظهر هذا الرجل في بداية الأمر أمام الإعلام وهو ينهش بالبكاء بعد قرار ماليزيا بالانفصال والتخلي عن جزيرة سنغافورة التي كانت جزء منها فوجهت ماليزيا الصفعة عام 1965م للبلد الصغير والفقير ومحدود الموارد سنغافورة.

وعانت سنغافورة كثيراً من الفساد الإداري والمالي والأمني حيث كانت تصنف آن ذاك كأحد أخطر الأماكن في العالم لتعرضها للجرائم والسرقات، فقد كان يسودها انفلات أمني بشكل كبير جداً.

بداية القصة مع "البطل المؤسس":

كانت بداية القصة مع مؤسس الدولة الذي حاز على ألقاب عديدة، لكنه لم يعتبر نفسه يومًا ما بطلًا بل قال عنه الناس كذلك، ولم يمنن على الناس ويستعلي عليهم بل رأى القدرة الكامنة في شعبه رغم الفقر والتخلف، وشجع تنمية الموارد البشرية وقدس العلم والتعليم والمعلمين.

بعد عودة "لي كوان يو" من جامعة اكسفورد كان محامياً جيداً وسياسياً محنكًا وهو أول أمين عام وعضو مؤسس لحزب العمل الشعبي. ورأى ما وصلت إليه بلده من مستوى التخلف والرجعية، فزاده ذلك حسرةً وندامةً على وطن ينظر إليه البعض بأنه خارج الكوكب الأرضي.

جاءت الانتخابات البرلمانية وفاز "لي كوان يو" بمنصب رئيس وزراء الجمهورية السنغافورية وحكمها لمدة ثلاثة عقود متتالية صنع نهضة حديثة في ظل تلك الظروف الصعبة والشاقة التي شهدتها بلده.

لم يمر الرجل بفترة يسيرة أو سهلة، بل تلقى الكثير من الصدمات أثناء حكمه فلم يكن باليد شيء ليفعله سوى شعب فقير متخلف وحكومة عائشة ومتعودة أن تعيش على الفساد الإداري والمالي والأخلاقي في بلد يعمه الرشاوي ونهب المال العام، وخلافات ونزاعات عرقية مجتمعية بين أكثر من ثلاثة أعراق: (صينيون وملاويين وهنود وسكان شرق آسيا).

بدأ "لي كوان يو" يغير في أنظمة بلده وسن قوانين جديده شيئًا فشيئًا ووضع حاجزًا للفساد الاداري والمالي لحكومته وشعبه، فاستطاع أن يبني نهضة اقتصادية وأن يجعل بلده من أهم بلدان العالم كما كان يحلم حيث اعتمدت سياسته على الاستثمار في الإنسان السنغافوري نفسه من خلال التعليم وتكثيف البعثات العلمية للخارج وتطوير المستوى الانساني والصناعي بمجملة.

شقت سنغافورة طريقها معتمدة على الثروة البشرية وذوي الكفاءات، حيث رأى "لي كوان يو" أن لا نهضة اقتصادية إلا في استثمار الفرد ذاته وتأهيله فوضعت مناهج علمية حديثة ركزت على بناء المعلم فهو القاعدة الأساسية لبناء الأجيال القادمة.

يقول رئيس وزراء سنغافورة وهو يشرح نهضة بلاده: "أعتقد أننا ركزنا بشكل كبير على الحفاظ على نزاهة نظامنا فنحن نتعامل بصرامة مع الفساد كما نركز بشكل كبير أيضًا على الأكفاء في تشغيل النظام مما يجعل القيادة فاعلة وقادرة على الإبداع، والترقيات من نصيب الأفضل، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب".

خطة تنمية اقتصادية غاية في الذكاء والاحترافية:

اعتمدت سنغافورة بيروقراطية صغيرة الحجم ذات كفاءة عالية، قوامها حوالي 50 ألف موظف لا أكثر، وعلى درجة كبيرة من المهنية والتعليم والثقافة. وقد حرصت على أن يتم التعيين في الوظائف عبر مناظرات عامة مفتوحة للجميع، بحيث يحصل موظفو القطاع العام على رواتب تنافسية مثل القطاع الخاص إن لم يكن أعلى (200 ألف دولار راتبًا سنويًا للوزير كمثال).

وقد مرت سنغافورة بمراحل متعددة باعتمادها على مجموعة من خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكانت الأولى باعتماد التصنيع البسيط والاقتصاد المعرفي كضرورة حتمية لتحقيق معدلات عالية للقطاع الاقتصادي.

وشملت قوائم صناعتها الرئيسة الإلكترونيات البسيطة، والخدمات المالية، والمواد الغذائية، ومنتجات المطاط، وإصلاح السفن، وكان الهدف الأكبر للتصنيع هو التصدير، لذلك عملت على استقطاب كبرى الشركات العالمية متعددة الجنسيات وتوطينها في سنغافورة مع تقديم تسهيلات ضريبية مغرية، بجانب الأيدي العاملة المؤهلة، خاصة في ميدان الصناعات الدقيقة.

توازى ذلك مع سياسة تجارية مدروسة خلال هذه المراحل حيث أدت التجارة دورًا حيويًا في البناء الاقتصادي. وحرصت سنغافورة على التطوير المستمر لتلك السياسات التجارية حيث أسهمت في زيادة وكفاءة القطاع التجاري.

وقد تخطت سنغافورة الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008 واستعادت تنامي اقتصادها لتصبح عام 2010 أسرع دولة في انتعاش اقتصادها بنمو وصل إلى17.9%.

وتمكنت حكومة سنغافورة من تحقيق أعلى دخل للفرد سنويًا من ألف دولار عند الاستقلال إلى أكثر من 60.883 ألف دولار عام 2013، كما أنها استطاعت أن تصل بحجم الاستثمار الأجنبي المباشر داخل البلد بما يزيد على 260 مليار دولار، في حين شكلت الاستثمارات السنغافورية في الخارج ما يتجاوز 300 مليار دولار.

كيف حاربت سنغافورة الجهل والتخلف؟

هناك أنظمة غريبة جداً في سنغافورة ستجعل أحدنا يصاب بالدهشة فورًا عند سماعها. لكن الحكومة اضطرت إلى سن وفرض تلك القوانين والعقوبات على الشعب وهو في قمة التخلف السابقة لكي تؤدبه، إذ كان لا يوجد احترام أو مبالاة بالمال العام والمحافظة عليه، وكانت الأنظمة والأخلاق تضرب عرض الحائط.

كل ذلك دفع الحكومة إلى سن تلك القوانين والعقوبات، فعلى سبيل المثال يمنع أكل اللبان (العلك) أو البصق في الشارع أو رمي أي شيء كان. ويمنع عبور الشارع إلا من ممر المشاة.

وفرضت مراقبة دورات المياه والمحافظة على نظافتها في الأماكن العامة، وعلى من يخالف غرامات مالية وسجن والبعض ضرب بالعصا.

رفعت سنغافورة من رواتب المعلمين، وعززت احترام شخصية المعلم ومكانته، وقامت بتدريبه جيدًا لكي يبني لها جيشًا بشريًا سيصبح لاحقًا أهم من أي مورد اقتصادي أو ثروة طبيعية.

من أين أتت سنغافورة بالأموال اللازمة لهذه النهضة الاقتصادية المذهلة؟

كلمة السر وراء حصولها على هذا التمويل السخي بدون التورط بديون ثقيلة وقاصمة للظهر من الخارج هي "الإدارة الناجحة للصناديق السيادية".

حصلت سنغافورة على الأموال الوفيرة من دون أن تضطر الى المساس ببرامجها الاجتماعية المحلية ومن دون أن تُشعر مواطنيها بأي عبء اقتصادي، وفي نفس الوقت، حماية اقتصادها المهترئ من الصدمات.

إذا كنتم تتساءلون عن ماهية صندوق الثروة السيادية، فهو عبارة عن صندوق استثماري مملوك للدولة أو كيان يتم إنشاؤه عادة من فوائض ميزان المدفوعات وعائدات الخصخصة والفوائض المالية، أو من عائدات صادرات البلاد إلى الخارج.

تعريف هذا الصندوق لا يشمل بالتأكيد أصولا مثل احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي التي يحتفظ بها عادة البنك المركزي لأغراض ميزان المدفوعات أو السياسة النقدية.

والدافع القوي الذي يقف وراء إنشاء أغلب صناديق الثروة السيادية، هو الرغبة في تجنّب السقوط في فخ "المرض الهولندي" والذي يحدث حين يؤثر ازدهار الموارد بشكل سلبي في الاقتصاد، بسبب الاعتماد على عائدات هذه الموارد وإهمال قطاع التصدير غير السلعي.

أول صندوق ثروة سيادية تؤسسه سنغافورة كان هو شركة الاستثمارات الحكومية (تيماسيك)، والتي تم تأسيسها في عام 1974 مع أصول أولية تبلغ قيمتها حوالي 150 مليون دولار. وفي البداية كان القوام الرئيسي للصندوق عبارة عن حيازات من الأسهم كانت تمتلكها وزارة المالية السنغافورية.

بعد 6 سنوات، وتحديدا في مايو 1981 تم تأسيس شركة حكومة سنغافورة للاستثمار، وهي عبارة عن صندوق سيادي تم تكليفه بإدارة الفائض التجاري للبلاد، بهدف الحفاظ على قيمته الشرائية وتنميته.

واستثمارات صندوق الثروة السيادي (GIC) منتشرة في أكثر من 45 بورصة حول العالم، وتشمل أنواعا كثيرة من الأصول، من بينها الأسهم والعقود الآجلة وعقود الخيارات وأصول الدخل الثابت والفوركس والأسهم الخاصة والعقارات.

وبند النفقات الدفاعية هو أكبر بند في ميزانية البلاد، ففي عام 2013 بلغ نحو 10 مليارات دولار، وهو ما مثل نحو %3.3 من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن رغم هذه النفقات الضخمة فلا تزال سنغافورة تتمتع بمركز مالي قوي، وخزانة الحكومة تستمر في النمو، ومنذ فترة طويلة لم تشهد الميزانية عجزًا، سوى في 2009 عقب الأزمة المالية العالمية.

وتمكّنت سنغافورة من إبقاء إنفاقها الدفاعي عند هذه المستويات العالية من دون المساس بسلامة المالية العامة أو اللجوء إلى رفع الضرائب. بل على العكس، تمتلك سنغافورة أحد أدنى معدلات الضرائب على الدخل الشخصي في العالم (%7)، ومعدل الضريبة المفروض على الشركات (%17) يعتبر تنافسيًا للغاية.

مرة أخرى، ما هو سر توازن المعادلة؟ الجواب هو صناديق الثروة السيادية. فبالنظر إلى الميزانية السنغافورية نجد أن هناك بندا خاصا يندرج تحت الإيرادات يسمى "صافي دخل الاستثمار"، وهذا البند يشير إلى عائدات البلاد من صناديقها السيادية.

وبموجب المادة رقم 142 من دستور جمهورية سنغافورة، يحق للحكومة استخدام ما يصل إلى %50 من صافي دخل الاستثمار، والذي يتكوّن من عائدات البلاد من صندوقيها السياديين «تيماسيك» و(GIC) إلى جانب الأرباح التي يحقّقها البنك المركزي للبلاد.

مساهمة هذا البند في الميزانية ليست بسيطة. ففي الفترة بين عامي 2007 و2012، تمكّن هذا البند بمفرده من تغطية ما يتراوح بين %7 و%17 من النفقات التشغيلية والإنمائية. ومن دون هذه الصناديق، كانت ميزانية البلاد ستتراجع إلى المنطقة الحمراء، وتستقر بها بداية من عام 2008، وكانت الحكومة ستجد صعوبة في تمويل برامجها الاجتماعية.

وتجربة سنغافورة مع صناديق الثروة السيادية يمكن لكثير من الدول استخلاص دروس عدة منها، ولكن ربما الدرس الأهم هو الطريقة التي تمكّنت من خلالها البلاد من استخدام هذه الصناديق في خدمة مصالحها الوطنية، بالإضافة إلى مزايا اتباع نهج استثماري طويل الأجل.

لكن في نهاية المطاف، يجب علينا جميعًا أن ندرك أن الصناديق السيادية ليست حلا سحريا ولا تزيد على كونها أداة. ما يحدث الفارق الحقيقي هو القيادة السياسية للبلاد المسؤولة وحدها عن تحديد المصالح الوطنية وتعبئة وحشد الموارد الوطنية في خدمتها لتحقيق الأهداف العليا للبلاد.