كيف يبدو التضخم في أوروبا وما الطريقة التي تتعامل بها الشعوب الأوروبية مع الأمر؟
تعتبر موجة التضخم التي ضربت العالم في الآونة الأخيرة من الأزمات الاقتصادية التاريخية التي قد يتذكرها الناس بعد سنوات كما تذكروا أزمة 2008 وغيرها.
وفي هذه الأزمة قد يتساءل بعضنا كيف تأثرت الدول الأوروبية التي عكفت على بناء اقتصادات قوية ومتينة طوال العقود الماضية، وفي أي وضع هي الشعوب الأوروبية المحبة للاستهلاك؟!
في الواقع، وعلى الرغم من متانة الاقتصاد الأوروبي وقوته، لكن استمرار التضخم، يساهم في تغيير عادات الناس الشرائية وطرق استهلاكهم؛ فبدأت تنشأ على مواقع التواصل الاجتماعي الاسكندنافية مجموعات مغلقة، بحثاً عن تبادل معلومات عن كيفية الحصول على غذاء أقل سعراً، وتتيح المجموعات طلب مساعدات مباشرة، دون تعريض السائل للحرج.
وتدفع الأمور أيضاً بالحكومات إلى التدخل من أجل تخليص المواطنين من براثن ارتفاع الأسعار قبل حدوث غليان شعبي لا تحمد عقابه. خصوصاً مع توقعات استمرار تصاعد موجات الغلاء مع تواصل الحرب في أوكرانيا، وتزايد اتهامات سياسية وإعلامية لموسكو باستخدام الغذاء، وبالأخص الحبوب، سلاحاً للضغط على الدول وعلى الشعوب لتغيير نظرتها للغزو المتواصل منذ 24 فبراير/شباط الماضي.
في هذا الصدد، فقد نشرت صحيفة "العربي الجديد" تقريرًا قدمت فيه لمحة عن آليات وطرق مواجهة بعض الحكومات الأوروبية لتحديات التضخم الصعبة وماهية تفاعل الشعوب والأسواق مع الأمر...
ماذا يحدث في أسواق أوروبا؟
في نظرة عامة على أكثر الأسعار ارتفاعاً في عموم دول الاتحاد الأوروبي الـ 27، بالإضافة إلى بريطانيا والنرويج غير العضوين، يتبين لنا أن المواد الغذائية ليست في مقدمة ما يُرهق جيوب وموازنات الأسر الأوروبية، بل إنها فواتير الغاز والكهرباء والوقود.
حيث ارتفعت أسعار الغاز في المتوسط بما قد يزيد عن 100 في المائة، وفي بعض دول الشمال الأوروبي بنسبة 125 في المائة، كحالتي الدنمارك والسويد. الزيادة تلك تجرّ معها زيادات في أسعار أخرى كثيرة، حتى لو لم تكن أغلبية المنازل تعتمد على الغاز الطبيعي.
وفي المرتبة الثانية، تأتي فواتير الكهرباء، التي زادت بنسبة لا تقل عن 50 إلى 60 في المائة، بحسب البلد، وذلك بالطبع يؤثر على فئات اجتماعية كثيرة، وبينهم المتقاعدون، حيث تلتهم زيادة فاتورة الكهرباء نسبة لا بأس بها من موازنتهم.
ثم في المرتبة الثالثة، تأتي زيادة أسعار البنزين والديزل، وفي المتوسط تتراوح بين 40 و50 في المائة، رغم تدخل بعض الحكومات لخفضها، كالسويد وألمانيا.
أما في المرتبة الرابعة تأتي المواد الغذائية بشتى أصنافها، من البيض والزيوت والحليب ومشتقات القمح إلى الآيس كريم، وبنسبة تبلغ في المتوسط 25 في المائة، بينما بعض زيوت الطهي تضاعف سعرها في الأسابيع الأخيرة.
وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن الارتفاع في أسعار الفائدة بات أيضاً ضاغطاً على ملّاك المنازل، حيث ينصح المختصون بإعادة جدولة القروض، بل يذهب بعضهم إلى تحذير الأفراد المدينين للبنوك بضرورة التنبه إلى أن أسعار الفائدة ستضرّ بهم إذا لم يعيدوا التفاوض وجدولة الديون.
ماذا فعلت الحكومات هناك؟
تولي بعض الحكومات في غرب وشمال أوروبا أهمية للفئات المصنفة ضمن الأكثر حاجة. وبالتالي فإن كبار السن من بين فئات أخرى كثيرة، يعتبرون في دول الرفاهية الإسكندنافية في مقدمة من تهرع الحكومات لدعمهم، وذلك ناجم بالأساس لاعتبارات ثقافية ترى أن المتقاعدين شاركوا في بناء تلك الرفاهية، وبالتالي جعلهم يعيشون وضعا جيدا يعتبر تصرفا مشجعا للبقية في المجتمع للاستمرار في العطاء حتى سن التقاعد.
وفي كوبنهاغن عاصمة الدنمارك على سبيل المثال قررت الحكومة منح المتقاعدين والأسر المحتاجة "صك تدفئة" بنحو 6 آلاف كرونه، يُصرف بعد العطلة الصيفية.
أما في السويد وألمانيا، فاختارت الحكومة دعم المواطنين عن طريق تخفيض أسعار وقود السيارات، من خلال تخفيض الضرائب عليه. هذا بالإضافة إلى خفض أسعار المواصلات العامة.
وذهبت دول أخرى، مثل هولندا وفرنسا والبرتغال والنمسا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا ولوكسمبورغ وليتوانيا وبلغاريا واليونان إلى تخفيض الضريبة على وقود السيارات، ودعم شركات متعثرة وإجراءات انتشال الأسر الأكثر ضعفا من الوقوع ضحايا ضغط التضخم والأسعار، من بين خطوات كثيرة.
وتجاوزت دول أخرى "دول الرفاهية الاسكندنافية" في الدعم المباشر لمواطنيها، من خلال دفع إعانات مالية، وهو ما جعل ألمانيا في مقدمة الدول التي تساعد مواطنيها على تخطي الأزمة، ثم في المرتبة الثانية فرنسا وليتوانيا وأيرلندا، لناحية الدعم المالي لكل الأسر.
وما يلفت في الإجراءات الأوروبية أن بلدا مثل إسبانيا يحتل المرتبة الأولى لناحية صرف خزينة الدولة على مواطنيها، رغم أزمات البلد الاقتصادية خلال الأعوام الماضية. وآخذين بفارق الاقتصادات وأحجامها، حلت فرنسا ثانيا، ثم إيطاليا فألمانيا، وهكذا بالتدريج إلى أن نصل إلى الدنمارك المتأخرة كثيرا عن بقية دول الاتحاد الأوروبي.
في المقابل، فإن الناس في الدول النامية والفقيرة، وفي دول أفريقيا المتخمة من الشركات الأوروبية التي تستخدم ثرواتها، لا يتصورون أو ينتظرون أي دعم حكومي لمحاربة التضخم، بل إنهم يأملون من حكوماتهم التوقف عن توريط البلد بأزمات اقتصادية جديدة فحسب.