قصة رغيف الخبز العربي... لهذا السبب يرتعد العرب خوفًا من أزمة القمح رغم أراضيهم الخصبة
تبدأ قصة رغيف الخبز العربي مع سؤال هام يطرحه الجميع: "أين هو قمح العرب وماذا عن أراضيهم الخصبة، كيف أصبحت روسيا المتجمدة على قمة إنتاج القمح في العالم وهبط العرب إلى القاع؟"
سنعطيهم بكل قطرة بترول حبة قمح... هكذا خسر العرب رغيف الخبز:
كرها أو وطوعا، تخلى العرب عن سياسات الاكتفاء الذاتي من القمح منذ مطلع الخمسينيات، بالتزامن مع بزوغ الولايات المتحدة كقوة عظمى ولاعب أساسي في المنطقة العربية وبديل للمستعمر البريطاني.
بدأت القصة عندما قدمت أمريكا القمح للحكومات العربية مجانًا، حتى قضت على مقومات إنتاجها الزراعي الجاد والقائم على تحقيق الكفاية من القمح والمحاصيل الاستراتيجية، لكن هذا القمح المجاني انتهى وانقطع عندما تحققت الغاية منه.
فعندما منع العرب البترول عن الغرب في حرب أكتوبر 1973، رد وزير الخارجية الأميركي "هنري كسينجر" بقوله: "سنعطيهم بكل قطرة بترول حبة قمح."
وهكذا فقد تفننت الإدارات الأميركية المتعاقبة في منع الاكتفاء الذاتي من القمح بالمنطقة العربية. لتفرض معادلة البترول مقابل القمح، مجهضةً بذلك محاولات عربية متكررة للاكتفاء من القمح حفاظًا على معادلة التوازن بين البترول والغذاء.
واستسلم العرب للواقع الجديد... فلا تنتج الدول العربية مجتمعة سوى 38 بالمئة من احتياجاتها من القمح، وتستورد 62 بالمئة. فتنتج أقل من 26 مليون طن، وتستورد نحو 43 مليون طن، ما يمثل 20 بالمئة من كمية القمح المتاحة في السوق الدولية.
التاريخ يكرر نفسه:
تتابعت السنوات والأزمات ولم يتعلم العرب درسهم، ففشلوا في تحقيق الاكتفاء الذاتي وزاد اعتمادهم على القمح الأجنبي. ثم مع بداية الحرب الأوكرانية في 24 فبراير/ شباط الماضي، توقفت واردات القمح من روسيا ومن أوكرانيا، وهما الدولتان اللتان توفران ثلث القمح المتاح للتجارة العالمية.
حينها أصيبت الحكومات العربية بالصدمة، لأن 60 بالمئة من وارداتها من القمح تأتي من الدولتين المتحاربتين. وتفضل الحكومات العربية شراء القمح من روسيا وأوكرانيا عن الولايات المتحدة لسببين:
أولًا: بسببانخفاض سعر القمح من الدولتين، ففي العادة يقل سعر القمح الصادر من منطقة البحر الأسود عن القمح الصادر من الولايات المتحدة وكندا بما يتراوح بين 50 إلى 100 دولار في الطن الواحد.
أما الثاني، هو انخفاض تكاليف الشحن البحري للقمح من روسيا وأوكرانيا إلى النصف تقريبًا، بالمقارنة بتكاليف الشحن البحري من كندا والولايات المتحدة. خصوصًا مع اشتعال أسعار الشحن البحري بعد الجائحة والحرب.
هل من أمل لرجوع قمح أوكرانيا مجددًا؟
حتى اللحظة تستمر فرص انتهاء الحرب في أوكرانيا بالتراجع، وتنعدم إمكانية تدفق القمح من روسيا بسبب الحصار الغربي، ومن أوكرانيا حتى نهاية العام الحالي على أقل تقدير حيث يستخدم بوتين القمح الأوكراني كسلاح لابتزاز الغرب وفك الحصار.
وفشلت محاولات الأمم المتحدة وتركيا في تصدير 20 مليون طن من الحبوب محاصرة في الصوامع في أوكرانيا عبر الموانئ، بسبب تخوف الأوكرانيين من هجوم روسي بحري بعد إزالة الألغام البحرية.
وفشلت محاولات فرنسا لتصدير الحبوب من أوكرانيا بالسكك الحديدية إلى رومانيا بسبب بطء النقل واختلاف عرض عجلات القطارات في الدولتين.
من أين يحصل العرب على القمح بعد حرب أوكرانيا؟
في الواقع إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يبحثان عن جواب لهذا السؤال الذي قد تعتقدون أنه لا يعنيهما، لكن العكس صحيح. فمن الضروري إيجاد بدائل لتلبية احتياجات الدول العربية من القمح، باعتبارها المتضرر الأكبر من الحرب، لضمان عدم تعاطفها مع روسيا، ولتجنيبها اضطرابات شعبية يمكن أن تندلع فينتج عن الأمر ثورة عل الحكومات المتحالفة مع الغرب وتختل موازين القوى.
بدايةً، طالب الرئيس الأميريكي "جو بايدن"، الهند بتصدير القمح للدول العربية كبديل سريع للقمح الأوكراني. وفي محاولة لدعم الحليف الأميركي، قال رئيس الوزراء الهندي إن بلاده قادرة على إطعام العالم وسد الفجوة التي خلفتها الحرب في أوكرانيا. وأن حكومته يمكن أن تصدر 10 ملايين طن للأصدقاء في مصر والجزائر ولبنان والمغرب وتونس... لكن كلام الهند خالف فعلها وما حدث كان كالتالي:
تعاقدت مصر فورًا لشراء نصف مليون طن. ولكن في اليوم التالي لإبرام الصفقة، أعلنت الهند حظر صادرات القمح بسبب الجفاف وتراجع الإنتاج المحلي في موسم الحصاد الجديد الذي يبدأ هذا الشهر. وكان للقرار تأثير نفسي على سوق القمح، حيث ارتفعت الأسعار في ذلك اليوم بأكثر من 50 دولارا للطن.
وأزعج قرار الهند الرئيس الأمريكي "بايدن" الذي صُدم بقرار وعبر عن غضبه أمام قمة المجموعة الرباعية، في طوكيو، والتي تضم بجانب الولايات المتحدة اليابان وأستراليا والهند، بقوله "إنهم يمرون بساعة مظلمة في تاريخهم المشترك بسبب غياب بدائل للقمح في ظل الصراع الروسي الأوكراني."
وفي نفس الصدد زار وزير المالية الفرنسي القاهرة في نهاية مارس/ آذار الماضي، أي بعد شهر من بداية الحرب، لكسب مصر ضد روسيا، ومن هناك أعلن بثقة أن فرنسا ستقف إلى جانب مصر وستضمن حصولها على احتياجاتها من القمح خلال الأشهر المقبلة في ظل تسبب الحرب بأوكرانيا عن قطع الصادرات.
وحتى لا تتراجع فرنسا عن وعدها، أصدر رئيس الوزراء المصري بيانا قال فيه إن مصر ستعتمد على فرنسا لتدبير احتياجاتها من القمح، وإن مصر تعول على علاقاتها الاستراتيجية مع فرنسا في تأمين إمدادات القمح. ونظرا لأن رطوبة القمح الفرنسي عالية لدرجة تهدد سلامة القمح، غضت مصر الطرف عن اشتراطات نسبة الرطوبة في القمح والتي يجب ألا تزيد عن 13 بالمئة.
ولكن وعود وزير المالية الفرنسي لم تكن كرما ولا مجانا، حيث كشف تجار عن أن سعر الشحنة وصل إلى 466 دولارا للطن، وهو ضعف ما كانت تدفعه مصر في شحنات القمح الفرنسي العام الماضي، ما يمثل عبئا لا تطيقه الموازنة المصرية المثقلة بالقروض وفوائد الديون.
والمشكلة لم تتوقف عند السعر المضاعف للقمح الفرنسي. فبعد الشحنة الأولى والوحيدة لمصر، وبحسب رويترز، تعرضت فرنسا، أكبر منتج للقمح في الاتحاد الأوروبي، لأسوأ موجة حر وجفاف منذ عام 2011، وتسببت في اضطراب أسواق القمح الأوروبية.
وقال متخصص بمعهد المحاصيل الفرنسي أرفاليس، إن محصول القمح الذي سيتم حصاده بعد شهر سينخفض يقينا، وأن الأسوأ لم يأت بعد، حيث ينتظر أن يؤدي الجفاف إلى أضرار جسيمة للقمح في الاتحاد الأوروبي بأكمله.
عولت الولايات المتحدة أخيرا على الأرجنتين، وهي سادس أكبر مصدر للقمح في عام 2021، حيث شكلت 7.2 بالمئة من حجم الصادرات العالمية. ووعد الرئيس الأرجنتيني، الرئيس "بايدن" بالمشاركة في حل الأزمة العالمية، وتعهد بأن تنتهز الأرجنتين الفرصة للمساعدة في تلبية الطلب العالمي على القمح وسد بعض العجز الناجم عن الحرب في أوكرانيا.
ولكن الفرحة لم تكتمل بسبب الجفاف أيضا وتراجع الإنتاج في موسم الحصاد الذي ظهرت تباشيره. وأكد تقرير وزارة الزراعة الأميركية أن الأرجنتين، الذي كان يعد المصدر الأكثر قدرة على تعويض نقص القمح في السوق الدولية بسعر معقول منذ شهرين فقط، أصبحت أغلى مصدر بسبب الجفاف وضعف الحصاد.
لنزيدكم من الشعر بيت، فإن الصين، التي تعد أكبر منتج للقمح في العالم، والمكتفية ذاتيا من القمح، تعاني هذا العام من نقص الإنتاج بمعدل مليوني طن، وقد تشتري من روسيا القمح لأول مرة، طمعا في الأسعار التفضيلية التي تحصل عليها من روسيا التي تبيع النفط بسعر يقل عن السعر العالمي بسبب العقوبات، ما سيشكل ضغط كبيرا على المتاح من القمح في السوق الدولية أمام الدول العربية.
وفي ظل غياب البديل، فإن الحل في الاكتفاء الذاتي العربي من القمح ولا بديل عن الاكتفاء الذاتي. فلا بد من استثمار الدول العربية في البحوث الزراعية وتكنولوجيا إنتاج التقاوي عالية الإنتاج والمقاومة للأمراض والتغيرات المناخية، ورفع كفاءة استخدام الأسمدة الزراعية، وتطوير وسائل الري، ودعم المزارعين بالأسعار التحفيزية.