قصة تايوان وأهميتها الخطيرة للصين والعالم... الدولة القادرة على إنهاء عصر التكنولوجيا

تايوان... هذه الجزيرة التي تكاد لا ترى على خريطة العالم، لكنها كفيلة بتعريض الحياة الحديثة التي نعرفها للشلل والرجوع بالبشرية حرفيًا إلى عقود للوراء لما قبل التكنولوجيا الحديثة، إذا تعرضت للخطر.

وزيادةً في الإيضاح، فإن هذه الجزيرة التي كانت مجهولة قبل عقود، قد بات من المحتمل أكثر من أي وقت مضى، أن تكون سبباً لحرب عالمية ثالثة مدمرة، خاصة بعد إعلان الرئيس الأمريكي "جو بايدن" مؤخراً، أن بلاده قد تتصدى عسكرياً لأي محاولة صينية لغزو تايوان.

فجزيرة تايوان التي يبلغ عدد سكانها نحو 23 مليون نسمة، تعد بلداً شديد الأهمية للغرب وأمريكا وحتى العالم كله. 

وتجد البشرية نفسها بخصوص هذه القضية المفصلية حاليًا أمام حقيقيتين مثيرتين للقلق:

الأولى أن التنافس الأمريكي الصيني قد تفاقم لدرجة تجعل الحرب بين الدولتين العظميين لم تعد مستبعدة.

والثانية أن أهمية تايوان الاقتصادية والسياسية والعسكرية تتزايد للغرب وأمريكا ومجمل العالم.

تايوان... الابن العاق للصين:

كانت تايوان جزيرة نائية قرب الصين ثم أصبحت جزءاً من الإمبراطورية الصينية والمجال الثقافي الصيني في القرن السابع عشر بعد هجرة كبيرة من سكان ساحل الصين الجنوبي.

وفي نهاية القرن التاسع عشر خضعت للاحتلال الياباني، إلى أن هُزمت طوكيو في نهاية الحرب العالمية الثانية، فعادت تايوان لفترة وجيزة لتبعية بكين، في وقت كانت الصين تخوض حرباً أهلية مدمرة بين الحزب الشيوعي الصيني المدعوم من الاتحاد السوفييتي وحزب الكومينتانغ الوطني المدعوم من أمريكا، قبل أن يهزم الأخير في نهاية أربعينيات القرن العشرين.

وبعد انتصار الشيوعيين، فرت إلى جزيرة تايوان أعدادًا كبيرة من قادة حزب الكومينتانغ  وأعضائه وجنود الجيش التابع له وكذلك موظفين حكوميين ورجال أعمال وتجار، قدر عددهم بنحو مليون شخص.

وأعلنت نخبة حزب الكومينتانغ بعد سيطرتهم على الجزيرة بدعم أمريكي، أنهم حكومة الصين الشرعية، وأطلقوا على جزيرة تايوان الصين مسمى "الوطنية" مقابل الصين الشعبية التي يحكمها الحزب الشيوعي.

وأيد العالم الغربي هذا الادعاء، معتبراً أن جزيرة تايوان التي يسكنها بضعة ملايين من الصينيين في ذلك الوقت (أغلبهم لا يجيد تكلم لغة الماندرين الرسمية في الصين وتايوان) هي الصين الشرعية، بل إنه منحها مقعد الصين الدائم في مجلس الأمن.

بينما اعتبر الغرب والدول التي تدور في فلكه، أن الصين الشيوعية التي يسكنها مئات الملايين بلد منشق عن تايوان، في مفارقة أقرب للكوميديا، تظهر كيف يعطي الغرب الشرعية لمن يشاء.

ولعقود حُكمت تايوان بشكل مستبد، من قبل النخبة القادمة من بكين عام 1949 التي دعمتها واشنطن، نكاية في الصين التي كانت تتبنى خطاباً شيوعياً وثورياً حاداً.

وعندما ساعدت أمريكا تايوان في التصدي لمحاولات الضم الصينية للجزيرة في الخمسينيات، لم تكن لتايوان في حد ذاتها أهمية استراتيجية كبيرة.

بل كانت أهمية هذه الجزيرة أنها تؤوي الحكومة الصينية الحليفة لأمريكا الفارة من البر الرئيسي الصيني، لأنها توفراً ادعاءً أمريكياً بعدم الاعتراف بحكم الحزب الشيوعي لأكبر بلد في العالم من حيث السكان، وتحولت الجزيرة إلى معقل مناهض للمد الشيوعي في آسيا، وحققت نهضة اقتصادية كبيرة بفضل الرأسمالية المستندة للاستبداد.

ولكن سرعان ما سحبت أمريكا اعترافها بأن تايوان هي ممثلة الصين الرسمية، واعترفت بالصين الشعبية عام 1979، نكاية في الاتحاد السوفييتي الذي كان قد دخل في نزاع مع بكين.

ونتيجة إلغاء الاعتراف الأمريكي بتايوان في عام 1979 وحملة الردع الحديثة لجمهورية الصين الشعبية تراجع الاعتراف الدولي بتايوان، وأصبح لديها علاقات دبلوماسية مع 15 دولة فقط من دول الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة، وواحدة فقط في جميع أنحاء إفريقيا.

ولكن ظلت أمريكا رغم اعترافها بحكومة الصين الشعبية، تدعم تايوان، اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً ولكن بشكل غير فج، وبطريقة تعترف بأن الصين واحدة.

تايوان الحديثة بصورتها التي نعرفها حاليًا:

مع تولي أجيال جديدةٍ السلطة في تايوان إثر ترسيخ الديمقراطية في البلاد وصعود الصين وفقدان النخبة التي أسست البلاد الأمل في استعادة حكم الصين، تخلت تايوان عن اعتبار نفسها ممثلة رسمية للصين برمتها.

وتقدم جيل جديد من الساسة ينتمون في أغلبهم إلى قومية هوكلو أكبر مجموعة عرقية (70% من إجمالي السكان)، الذين هاجر أسلافهم من منطقة فوجيان الجنوبية الصينية الساحلية عبر مضيق تايوان بدءاً من القرن السابع عشر.

وبات سكان تايوان يدعمون بشكل متزايد، فصل العلاقات الثقافية مع البر الرئيسي للصين، حيث كشفت الدراسات الاستقصائية التي أجريت في عام 2019، أن معظم سكان الجزيرة يعتبرون أنفسهم تايوانيين وليسوا صينيين، علماً بأن هناك اختلافات كبيرة بين أطياف الشعب التايواني بشأن مسألة الانتماء للصين حسب العرقية والعمر وتاريخ الهجرة والانتماء الحزبي.

وبينما تخلت نخبة تايوان عن حلم استعادة الصين القارية، واعتبروا بلادهم دولة مستقلة بذاتها، فإن الحزب الشيوعي في الصين لم يتخل عن حلم استعادة تايوان للوطن الأم.

من جانبها، لم تتخل الولايات المتحدة رسمياً عن مفهوم الصين الواحدة، ولكن فعلياً بدا أنها ترسخ فكرة انفصال تايوان، وهو توجه ازدادت حدته مؤخراً عبر تشجيع الغرب لضم تايوان إلى بعض المنظمات الدولية، والسماح لبعض حلفاء أمريكا الصغار بالاعتراف بتايوان كدولة مستقلة أو تعزيز العلاقات معها.

كما تتقاطر وفود الدول الغربية على تايوان مؤخراً بشكل غير مسبوق بهدف تقديم الدعم المعنوي للجزيرة المتمردة على بكين.

هذا التوجه الأمريكي لتعزيز انفصال تايوان بشكل غير رسمي، يدفعه بشكل أساسي هوس أمريكي بالمنافسة مع الصين، ولكنه أيضاً مدفوع بشكل جزئي بازدياد أهمية تايوان الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية.

سر الاهتمام الأمريكي بتايوان من الناحية العسكرية والاستراتيجية:

من الناحية العسكرية والاستراتيجية، فإن تايوان تمثل واحدة من دول الجزر وأشباه الجزر الآسيوية الحليفة لأمريكا في مواجهة الصين.

فالحقيقة الجغرافية التي قد لا ينتبه لها البعض، أن شرق آسيا، وضمنه الشرق الأقصى وجنوب شرقي آسيا الذي يضم نحو ثلث سكان العالم ويعد مصنع العالم الفعلي حالياً، ما هو إلا بمثابة عملاق صيني يحتل البر الآسيوي الشرقي برمته وصولاً لوسط وشمال وجنوب آسيا، بينما الدول الحليفة لأمريكا أو المستقلة عن نفوذ بكين، ما هي إلا أقطار ضئيلة السكان والحجم مقارنة بالصين.

تحتل هذه الأقطار الأطراف الشرقية والجنوبية الشرقية للقارة الآسيوية في مجموعة من الجزر وأشباه الجزر مثل كوريا الجنوبية واليابان الحليفتين لأمريكا، ودول مثل الفلبين وإندونيسيا وماليزيا ودول شبه جزيرة الهند الصينية (فيتنام وتايلاند ولاوس وكمبوديا وبورما)، وهي دول في أغلبها حائرة بين التأثير الاقتصادي والثقافي الصيني وعلاقتها المتقلبة مع أمريكا التي تعززت مؤخراً مع صعود بكين.

لذا، فبالنسبة لأمريكا، تعتبر تايوان هي الجبهة الأولى في عملية حماية حلفائها المقربين في اليابان وكوريا، وحتى الدول المتذبذبة في جنوب شرقي آسيا.

ويمثل نجاح الصين في غزو أو ضم تايوان خطوة مبدئية في الهيمنة على دول الجزر وأشباه الجزر الأخرى في آسيا، خاصةً اليابان وكوريا الجنوبية. وما زال غير محسوم ما إذا كانت الولايات المتحدة ستعتبر تايوان تستحق القتال من أجلها أم لا.

كما أن الجانب المعنوي والأيديولوجي له دور كبير في الخلاف الصيني الأمريكي حول تايوان، حيث تمثل تايبيبه نموذجاً لنجاح الليبرالية الرأسمالية على النمط الغربي في مواجهة الحكم الاستبدادي القائم على رأسمالية الشركات الموجهة من قبل الدولة الذي تقدمه الصين.

وجهة نظر المال والاقتصاد التي لا تخيب:

بغض النظر عن كافة الجوانب الأخرى القابلة للأخذ والرد، فإن الأهمية الاقتصادية والتكنولوجية لتايوان قد تمثل الجانب الصاعد في مسعى أمريكا للحفاظ على الجزيرة بعيدًا عن أيدي الصين.

في حال ضم الصين لتايوان، ستتمكن بكين أيضاً من الوصول إلى صناعتها عالية التقنية، وضمن ذلك مصانع أشباه الموصلات ذات المستوى العالمي، مما يضيف إلى قاعدة بكين الصناعية الكبيرة.

إذ تهيمن تايوان على تصنيع أشباه الموصلات، حيث استحوذ مصنعوها على أكثر من 60% من إجمالي السوق في هذه الصناعة، وفقاً لبيانات شركة الأبحاث TrendForce في تايبيه، أوردها موقع CNBC   الأمريكي الاقتصادي في مارس/آذار 2021.

وتعد شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية "TSMC" أهم صانع للرقائق في العالم وأهم مورد للصين، متفوقة بشكل كبير على شركة سامسونغ الكورية التالية لها في الترتيب العالمي في هذه الصناعة الحيوية لكل السلع اللازمة للحضارة الحديثة.

والشركة التايوانية هي المزود الرئيسي للشرائح الإلكترونية وأشباه الموصلات لشركات التكنولوجيا الكبرى مثل Apple وQualcomm وNvidia.

يمكن قياس الأهمية البالغة لتايوان في مجال صناعة أشباه الموصلات العالمية من حقيقة أن أزمة سلاسل التوريد الخانقة التي أعقبت انحسار جائحة كورونا والتي أدت إلى تقليص إنتاج مروحة واسعة من المنتجات تشمل السيارات والهواتف المحمولة والأجهزة الكهربائية، سببها مشكلات في الإنتاج بتايوان التي تكاد تحتكر إنتاج نحو أشباه الموصلات.

فضم تايوان من قبل بكين معناه سيطرتها على جزء كبير من هذه الصناعة المهمة، وإضافة إلى سيطرة الصين شبه الاحتكارية الحالية على جزء من سلاسل التوريد في صناعات الإلكترونيات، فإن هيمنتها على صناعة أشباه الموصلات التايوانية معناها هيمنة كاملة على كل أو معظم مراحل صناعات الإلكترونيات في العالم من مرحلة استخراج الخامات للتجميع النهائي.

وفي هذا الإطار فرضت تايوان قيوداً على سفر المهندسين العاملين في هذا المجال للصين.

وفي ورقة بحثية نشرتها الكلية الحربية للجيش الأمريكي في عام 2021، اقترح باحثان أمريكيان أن تقوم تايوان بتدمير صناعة أشباه الموصلات الخاصة بها إذا تعرضت لغزو صيني، معتبرين أن هذه استراتيجية ردع ستجعل الجزيرة "غير مرغوب فيها للصين".

وأشار المؤلفان إلى أنه إذا توقفت شركة TSMC التايوانية عن العمل، "فإن صناعات التكنولوجيا الفائقة في الصين سوف تتوقف".

تلاحظ الورقة البحثية أنه "على الرغم من الجهود الصينية الضخمة لصناعة الرقائق المصنوعة في الصين، فإن 6% فقط من أشباه الموصلات المستخدمة في الصين تم إنتاجها محلياً في عام 2020".

ويمكن للولايات المتحدة وحلفائها أيضاً وضع خطط طوارئ للإجلاء السريع من التايوانيين ذوي المهارات العالية العاملين في هذا القطاع ومنحهم الملاذ، كما تقترح الورقة.

وقد يكون من المثير للقلق بالنسبة لتايوان أن حليفتها الكبرى أمريكا تسعى لاستضافة جزء من صناعة أشباه الموصلات على أراضيها، ومع أن الهدف من هذا التوجه الأمريكي يبدو من الوهلة الأولى منع تكرار أزمة سلاسل التوريد الحالية من جراء احتكار تايوان لهذه الصناعة.

ولكن قد يكون الهدف الأمريكي الأعمق، والأكثر استراتيجية، هو منع تحكم بكين في هذا القطاع، في حال سقوط تايوان بين أيديها.

كما أن الناتج المحلي الإجمالي الكبير لتايوان بالنسبة لعدد سكانها والبالغ 600 مليار دولار، سوف يقع تحت سيطرة جمهورية الصين الشعبية، مما يضيف مزيداً من القوة الاقتصادية للصين، مع ملاحظة أنّ ضم تايوان عبر عمل عسكري صيني قد تكون له أضرار كبيرة على بنيتها الصناعية والعسكرية.

المفارقة أن التحليل المعمق، يظهر أن التجارة التايوانية ليست حيوية للاقتصاد الأمريكي من ناحية الكم، (ولكنها مهمة جدا من ناحية الكيف).

فتايوان هي عاشر أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة (85 مليار دولار)، وهو مبلغ تافه بالنسبة للتجارة الأمريكية مع الصين (635 مليار دولار) أو كندا والمكسيك (500 مليار دولار لكل منهما).

والمفارقة أنه باستثناء صناعة أشباه الموصلات، فإن أهمية تايوان للصين أكبر من أهميتها لأمريكا، ولكن تايوان مهمة للعالم كله برمته، وبدون هذه الجزيرة الصغيرة ستختفي أغلب مظاهر الحضارة الحديثة.