متى ستتحرر اقتصادات وعملات العالم من عبودية وهيمنة الدولار؟

نسمع منذ سنوات حتى الآن تحليلات عديدة وتوقعات متضاربة بشأن موعد نهاية الدولار، وبخصوص العملة الجديدة التي ستزيحه عن عرش الاقتصاد العالمي الذي اعتلاه عن طريق الحيلة حين ضرب بمصالح العالم وبالمنطق الاقتصادي السليم عرض الحائط (صدمة نيكسون).

لكن التقليل من شأن الدولار، على اعتبار أنه "مجرد قطعة من الورق يمكن طباعتها بدون حدود أو قيود ليعترف بها الجميع مكرهًا" كما يزعم البعض، لن يفضي بنا إلى نظريات سليمة ومنطقية حول موعد انتهاء هيمنته، بل سيجعلنا نغرق بالآمال الكاذبة والفرضيات الضعيفة التي سمعناها كثيرًا طوال السنوات الماضية.

ننطلق من ذلك إلى تحليل أحد الأكاديميين الأميركيين الذي يؤكد أن الدولار لا يزال هو العملة الاحتياطية العالمية، بل أصبح أقوى من أي وقت مضى، وسيظل كذلك لسنوات طويلة.

هل يلفظ الدولار أنفاسه الأخير فعلًا؟

يرى "مارك كوبيلوفيتش"، وهو أستاذ العلوم السياسية والشؤون العامة ومدير الدراسات الأوروبية بجامعة ويسكونسن الأميركية، أن هذه التكهنات تنتشر كثيرا وقت التغيرات الكبيرة والأزمات والحروب والكوارث.

فقد سمعنا الكلام نفسه عن تزعزع مكانة الدولار عندما تولى الرئيس الأميركي "جو بايدن" منصبه، وعندما انتشرت جائحة "كوفيد-19″، وعندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على روسيا عقب استيلائها على شبه جزيرة القرم، وخلال الأزمة المالية عام 2008-2009، وحاليا بسبب الحرب في أوكرانيا.

وأوضح الكاتب، في مقاله الذي نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، أن الدولار لم يفقد مكانته كعملة احتياطية أساسية، إذ يشترك في هذا التمييز مع عدد قليل فقط من العملات الرئيسية الأخرى، بما في ذلك اليورو والين الياباني والفرنك السويسري والجنيه الإسترليني والدولار الكندي والدولار الأسترالي والرنمينبي الصيني.

والعملات الاحتياطية هي العملات التي تحتفظ بها الحكومات والبنوك المركزية والمؤسسات الخاصة على نطاق واسع لإجراء التجارة الدولية والمعاملات المالية.

وأكد أن مكانة الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية المهيمنة، أصبحت الآن أقوى من أي وقت مضى وأصبحت أكثر رسوخا في أعقاب جائحة فيروس كورونا والأزمة الاقتصادية.

وتابع "كوبيلوفيتش" ليقول إن الدولار ليس مجرد عملة احتياطية عالمية عادية، بل هو العملة الاحتياطية العالمية المهيمنة، ففي عام 2019، كان 62% من احتياطيات النقد الأجنبي الرسمية للحكومات والبنوك المركزية على نطاق العالم بالدولار، وجاء اليورو ثانيا في الترتيب وبفارق كبير عند 20%، والين الياباني في المرتبة الثالثة عند 5%، والجنيه الإسترليني عند 4.5%، والعملات الأخرى جميعها أقل من 2%.

ونرى ذلك جليًا في تقرير بنك التسويات الدولية لعام 2020، الذي رصد هيمنة الدولار بعدة أبعاد؛ فما يقرب من نصف القروض المصرفية عبر الحدود مقومة بالدولار، بينما ثلثها فقط مقوم باليورو، مع قروض بعملات أخرى تمثل أقل من 20%، كما أن ما يقرب من 90% من تداول العملات الأجنبية ينطوي على الدولار في جانب واحد من الصفقة.

الاقتصاد العالمي... مكنةٌ وقودها الدولار:

بدون التطرق إلى تفاصيل وتعقيدات طويلة، يختصر الكاتب ليقول إن الاقتصاد العالمي "يعمل بالدولار"، وهذه حقيقية ثابتة لم تتغير منذ عقود، على الرغم من التكهنات المتكررة بالتغيير الوشيك.

وها هي 5 عقود قد انقضت منذ التنبؤات الرهيبة بزوال الدولار، والتي يعود تاريخها إلى عام 1971 على الأقل، عندما أنهى الرئيس الأميركي الأسبق "ريتشارد نيكسون" إمكانية تحويل الدولار إلى ذهب.

ومع ذلك، في كل مرة تحدث أزمة مثل الوباء أو حرب أوكرانيا، يزعم الناس أن هذه المرة مختلفة، لكننا شهدنا كيف عزز الوباء مركزية الدولار بدلا من إضعافه. وبالمثل، فإن العزلة المالية السريعة وشبه الكاملة لروسيا من قبل مجموعة الدول السبع قد أظهرت الهيمنة المشتركة للدولار واليورو كعملتين احتياطيتين رئيسيتين في العالم.

ماذا عن الاتحاد الأوروبي والصين... أليست اقتصادات ضخمة منافسة للدولار؟

لفت أستاذ العلوم السياسية، إلى أن المتشائمين بشأن الدولار يتناسون الأسس العميقة والمتينة لهيمنة العملة الصعبة، مثل حجم الاقتصاد الأميركي، والأسواق المالية الخاصة العميقة والسائلة التي لا مثيل لها والحماية القوية لحقوق الملكية في الولايات المتحدة.

والأمر ببساطة، أن الولايات المتحدة أكثر استعدادا بكثير من الاتحاد الأوروبي أو الصين أو اليابان للعمل كملاذ أخير للإقراض في الأزمات المالية العالمية، بفضل بنية الشبكة الهرمية الراسخة بعمق في النظام النقدي والمالي العالمي.

واستنتج الكاتب أنه لا توجد دولة أخرى في هذا العالم تتمتع بتلك المزايا، ولا توجد عملة أخرى على استعداد لملء هذه الأدوار، فالاتحاد الأوروبي هو أكبر اقتصاد في العالم، لكن منطقة اليورو ليست اتحادا ماليا ولا سياسيا، وهذا يجعل من الصعب إقناع الآخرين بأنه يمكنهم الاعتماد على اليورو في الأوقات الصعبة، أما عن الصين فلا ننكر أنها آخذة في الصعود، وأن عملتها تتحول ببطء إلى عملة احتياطية عالمية، ومع ذلك، لا تزال الصين تفتقر إلى الأسواق المالية الخاصة العميقة والسائلة، ولا تسمح بالتدفقات الحرة لرأس المال، ولم يُظهر حكامها أي علامة على الإطلاق بأنهم سيقبلون المقايضات الاقتصادية السياسية الضرورية لتحدي الدولار، أو حتى اليورو.

وختم أستاذ العلوم السياسية "كوبيلوفيتش" مقاله مؤكدًا بأنه قد يأتي يوم يفقد فيه الدولار دوره المركزي باعتباره العملة الاحتياطية العالمية المهيمنة، ولكن ذلك لن يحصل اليوم أو غدًا، ولا حتى هذا العقد... ومن المحتمل جدا ألا يكون هذا القرن.

ولن يصبح الأمر محتملا حتى يصبح الاتحاد الأوروبي اتحادا ماليا وسياسيا حقيقيا، أو حتى تطور الصين حكومة ليبرالية خاضعة للمساءلة وأسواق مالية خاصة أكثر تطورا وتقبل في النهاية حرية حركة تدفقات رأس المال، ولا يبدو أن أيا من هذه السيناريوهات سيحدث قريبا.