المكنة الألمانية قد تتوقف... ورطة حقيقية يقع بها اقتصاد ألمانيا الذي خذلته قوة الصناعة

في هذه الأيام يستذكر الألمان بمرارة لقب "رجل أوروبا المريض" الذي ظنوا أنهم قد تركوه خلفهم قبل عقدين من الزمن، لكن أشباح أزمات الماضي قد ظهرت مجددًا بعدما عاد الاقتصاد الألماني إلى مواجهة تهديدات وجودية بفعل ظروف الصراع على موارد الطاقة في المنطقة.

ويشرح الخبراء في هذا الصدد، أن اعتماد ألمانيا الكبير على الصناعة، يجعلها عرضة أكثر من الدول الأوروبية الأخرى، للاضطرابات في إمدادات الطاقة الروسية الناتجة عن الحرب، والاختناقات التي تعاني منها التجارة العالمية.

ونتيجةً لكل ذلك، سيواجه أكبر اقتصاد في أوروبا مخاطر بانكماش الاقتصاد، بل وحتى مزيد من ارتفاع الأسعار الذي يضغط على المستهلكين، الذين يعانون بدورهم حالة من عدم الاستقرار.

ويمكن اختصار الصورة القاتمة في تصريح واحد قالته "ألين شويلينغ"، كبيرة الاقتصاديين لدى بنك "إيه بي إن أمرو": "ألمانيا في وضع اقتصادي كارثي، والمخاوف بشأن التوقعات الخاصة بها، لها ما يبررها".

حيث تتوقع "شويلينغ" أن ينكمش الإنتاج الألماني في الربع الثاني، ويشاركها في هذه التوقعات، الاقتصاديون لدى "بنك أوف أمريكا ميريل لينش" و"بنكو سانتاندير" (Banco Santander)، بينما يشير إجماع  خبراء "بلومبرغ" إلى نمو قدره 0.4%.

في غضون ذلك، تتوقع المفوضية الأوروبية أن تسجل جمهورية إستونيا فقط نمواً اقتصادياً أبطأ من ألمانيا هذا العام، بسبب تأثيرات مماثلة، وقربها من روسيا أيضاً. إلا أن التقديرات تُشير إلى معاناة البلدين من تضخم يفوق متوسط التضخم في ​​منطقة اليورو التي تضم 19 دولة.

صيف صعب للغاية قادم على الألمان:

بات الضغط على قلب الاقتصاد الألماني واضحاً، حيث تشكو نحو 77% من الشركات الصناعية من تضرر أنشطتها جرّاء نقص المواد والمعدات، أكثر من أي مكان آخر في أوروبا. وقد خفّض صانعو الآلات في البلاد، توقعاتهم لنمو الإنتاج إلى 1% فقط من 4%.

إلى جانب الإضرار بالقطاع الصناعي، قد يسحب موسم السفر الصيفي الأموال أيضاً، حيث ينفق المستهلكون الألمان أموالهم في دول البحر الأبيض المتوسط المشمسة، بعد عامين من الوباء. وربما بدأ تجار التجزئة يشعرون بهذه الضائقة، مع تسجيل المبيعات في أبريل، أكبر تراجع لها خلال عام.

في معرض تعليقه على ذلك، يقول "سيغفريد روسورم"، وهو رئيس اتحاد الصناعات الألمانية "بي دي آي" (BDI)، إن عام 2022 سيكون "صعباً للغاية"، بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، وتأثير سياسة "صفر كوفيد" الصينية، معاً.

ويضيف "روسورم" بعد محادثات أجراها مع وزير الاقتصاد الألماني، وممثلين عن النقابات: "تفرض عواقب الاضطرابات القيام بتحرك سريع. إن الوقت ينفذ".

لماذا يواجه اقتصاد ألمانيا الضخم والمتين هذه المشاكل؟

في الواقع، تعود مشاكل الاقتصاد الألماني إلى تجاهل ألمانيا المخاطر الجيوسياسية في مقابل التركيز على تقوية قاعدتها التصنيعية، والتي ساعدت، جنباً إلى جنب الإصلاحات العمالية الشاملة، على إخراج البلاد من الركود في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

وما حدث في السنوات الأخيرة، أن المستشارة السابقة "أنجيلا ميركل" قد ضاعفت اعتماد ألمانيا على الطاقة الرخيصة الروسية، مما شجّع الشركات على القيام بأعمال تجارية في الصين.

تعليقًا على ذلك، يقول المستثمر الملياردير "جورج سوروس"، خلال المنتدى الاقتصادي العالمي: "حقّقت ألمانيا بسبب ذلك، أفضل أداء اقتصادي في أوروبا، لكنها الآن أمام ثمن باهظ يجب أن تدفعه".

أما المستشار الألماني "أولاف شولتس"، فبدا وكأنه اعترف بهذه المخاوف أثناء حديثه في منتدى دافوس في سويسرا، من خلال قوله: "كان هناك إهمال من قبل البعض في السابق"، مضيفاً أن ألمانيا تحتاج حالياً إلى تنويع سلاسل التوريد وأسواق التصدير سريعاً.

ويؤكد المستشار: "يجب أن تواجه العديد من الشركات هذا الأمر. لقد خالفوا غالباً، المبدأ الذي تعلموه في بداية دراستهم في كلية إدارة الأعمال، وهو ألا تضع كل البيض في سلة واحدة".

على ضوء ذلك تزداد في ألمانيا الدعوات إلى التخلي عن التنمية في ظل عولمة ليبرالية منفتحة لصالح "عولمة منظمة"، على حد تعبير الكاتب الصحفي "توماس فريكيه" في مقال له على موقع شبيغل تحت عنوان "وداعا حلم المعجزة الاقتصادية الألمانية".

وما يعنيه ذلك حسب الكاتب وكتاب آخرين هو العمل على توفير المواد الأولية والسلع الاستراتيجية عن طريق الإنتاج المحلي والأوروبي قدر الإمكان، وتقليص الاعتماد على مورد واحد في توفيرها إلى نسب لا تتجاوز الثلث في أحسن الأحوال. ومن الواضح أن هدفا كهذا ليس من السهل الوصول إليه في بلد فقير بالمواد الأولية ولديه صناعات كيمائية وثقيلة تحتاج إلى مصادر طاقة تقليدية بشراهة قل نظيرها.