حينما تتعطل قوانين العرض والطلب... خبراء يحذرون من وقوع العالم بالركود التضخمي

تتهافت البنوك المركزية في غالبية دول العالم على رفع سعر الفائدة، لمحاصرة التضخم الهائج الذي يهدد بسقوط الاقتصادات القوية والضعيفة على حد سواء، في حفرة الركود التضخمي المظلمة.

و"الركود التضخمي" مصطلح اقتصادي، يعني أن ارتفاع معدل التضخم أو غلاء السلع يكون مصحوبا في ذات الوقت بالكساد وقلة المبيعات ووفرة العرض. وهذا معاكس لمبدأ العرض والطلب، فالمنطق أن الأسعار المرتفعة تترافق مع الطلب المرتفع، والكساد أو الركود يحدث بسبب كثرة العرض وقلة الطلب.

لهذا السبب فإن الاعتقاد السائد والعام أن العلاقة بين التضخم والركود علاقة عكسية، ولا يصح اجتماعهما في آنٍ معًا، لكن حالة الركود التضخمي استثناء خطير عن هذه القاعدة.

ناقوس الخطر يُدَق... ليس ركودًا ولا تضخمًا بل كلاهما معًا:

بدأت علامات الركود التضخمي بالظهور في أسواق المال العالمية، حيث تراجعت المؤشرات الرئيسية بقوة بينما يستمر التضخم ضمن مستويات تاريخية.

وفي أكبر مؤشرات الركود التضخمي التي ظهرت حتى الآن تراجع مؤشر داوجونز (مؤشر يقيس أداء أكبر 30 شركة صناعية في أمريكا) في تعاملات الأربعاء الماضي بنسبة 3.6% من قيمته السوقية، وهذا أكبر تراجع يومي منذ العام 2020.

كما خسر مؤشر ناسداك لشركات التكنولوجيا في نفس اليوم أكثر من 4%، وتراجعت كذلك مؤشرات أسواق المال في أوروبا وآسيا لتعكس مخاوف المستثمرين من انهيار أسواق الأسهم وتكبد خسائر فادحة مثلما حدث في دورات سابقة.

وفي خضم ذلك، باتت تصريحات كبار خبراء المال والاقتصاد متركزةً حول احتمال دخول العالم لدورة اقتصادية تقترب من الكساد.

في لقاء مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، توقع "بن شالوم بيرنانكي"، رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي، "البنك المركزي الأميركي" الأسبق، دخول الاقتصاد الأميركي مرحلة الركود التضخمي. واعتبر أنه "في أفضل السيناريوهات فإن النمو الاقتصادي في أميركا سيتباطأ وسيظل التضخم مرتفعاً".

وعلى الرغم من التطمينات الرسمية في أمريكا، إلا أن العديد من خبراء المال يرون أن هنالك استحالة في تحقيق هدف القضاء على التضخم بدون كلفة عالية على النمو الاقتصادي بالولايات المتحدة.

في هذا الشأن، يقول "لاري سمرز" وزير الخزانة الأميركي الأسبق والمحاضر حالياً بجامعة هارفارد: "إن هنالك فرصاً ضئيلة أن يتمكن مجلس الاحتياط الفيدرالي من خفض معدل التضخم دون أن يؤدي ذلك إلى تراجع كبير في الأنشطة الاقتصادية".

ما الذي يجعل الركود التضخمي خطرًا محدقًا؟

يرى محللون أن هنالك ثلاثة أسباب رئيسية يمكن النظر لها، وهي تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا على الأنشطة الاقتصادية في أوروبا وارتفاع أسعار الغذاء والمشتقات البترولية والغاز الطبيعي.

وثانياً: الارتفاع السريع لكلف المعيشية الذي ضرب الإنفاق الشرائي، وبالتالي تقلص دخل الشركات التي تصنع السوق.

وثالثاً: الارتفاع السريع في سعر صرف الدولار الذي سبب أزمات للعملات العالمية ويهدد اقتصادات العديد من الدول في آسيا وأميركا اللاتينية.

وكل هذه الأسباب تعتبر نتيجة لعاملين رئيسيين: أولهما حزم التحفيز الجنونية وطبع كميات هائلة من الدولار بدون هوادة، وثانيهما التوترات الجيوسياسية والفاتورة التي سيدفعها العالم حتى ينتهي صراع الكبار.

هل يتم تهويل آثار حرب أوكرانيا؟

لعله من المطمئن الاعتقاد بأن حرب أوكرانيا قد أعطيت أكبر من حجمها، وأن أغلب التصريحات والتحذيرات هي تهويل إعلامي يحدث لمآرب سياسية. لكن معطيات الواقع تظهر صورًا قاتمة لا يمكن إنكارها:

مما لا يمكن التغاضي عنه، أن حرب أوكرانية ضربت أمن الطاقة والغذاء والمعادن والسلع الرئيسية في العالم. لأن روسيا وأوكرانيا من كبار المنتجين للنفط والغاز والقمح والمعادن.

وبالتالي رفعت الحرب من أسعار هذه السلع وسببت أزمات معيشية في أوروبا والعديد من الدول النامية، كما هددت بنهاية العولمة وأمن الموانئ والانسياب الطبيعي للسلع والخدمات بين دول العالم، خاصة في أوروبا.

ووصف نائب رئيس البنك الدولي للشؤون المالية، "أندرمت جيل" تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، بقوله "هذه أكبر صدمة سلعية يشهدها العالم منذ السبعينيات".

وحتى الآن من غير المعروف متى ستتوقف الحرب، وما هو حجم الدمار الذي ستتركه في أوكرانيا والاقتصادات الأوروبية، ولكن من المؤكد أن الكلفة الاقتصادية للحرب ستكون ضخمة جداً، حيث إن كلفة إعادة إعمار أوكرانيا فقط تفوق تريليون دولار، إضافة إلى الكلف الاقتصادية التي ستتركها على النمو الاقتصادي والثقة الاستثمارية في أوروبا والعالم النامي والشعوب الفقيرة.

أيام عصيبة تنتظر منطقة اليورو:

على الصعيد الأوروبي يرى اقتصاديون، أن آثار الحرب السلبية على الاقتصادات الأوروبية لا تقل عن الآثار المدمرة التي تركتها أزمة ديون اليورو في بداية العقد الماضي وكادت أن تفلس بالعديد من دول منطقة اليورو.

وتشير بيانات مصلحة الإحصاء الأوروبية "يورو ستات" إلى أن معدل النمو الاقتصادي في منطقة اليورو التي تضم 19 دولة تراجع إلى 0.2% في الربع الأول من العام الجاري، كما أن سعر صرف اليورو تراجع إلى نحو دولار واحد خلال الشهر الجاري، بينما ارتفع معدل التضخم إلى 7.5% .

ووصف "أندرو كيننغهام"، الاقتصادي بمؤسسة "كابيتال إيكونومكس"، العام الجاري في أوروبا بأنه "عام الركود التضخمي في منطقة اليورو". وأضاف أن "سعر الطاقة المرتفع سيفاقم من معدل التضخم وسيضغط تبعاً لذلك على دخل العائلات ويضرب الثقة في الأعمال التجارية".

ولا تزال أوروبا غير متأكدة ما إذا كانت ستفرض عقوبات على الطاقة الروسية خلال العام الجاري أم لا، بينما تضغط روسيا عبر تسعير الغاز الطبيعي بالروبل على دول الاتحاد الأوروبي. وتستورد أوروبا نحو 40% من احتياجات الغاز من روسيا وتعتمد معظم مصافيها على خام الأورال الروسي.

وفي ذات الصدد توقع "توم هولند"، الاقتصادي بشركة "غيفكال" البريطانية للأبحاث الاقتصادية، أن "أوروبا تواجه أزمة اقتصادية شبيهة بأزمة ديون اليورو في عامي 2011ــ 2012". وكانت تلك الأزمة قد أدت إلى إفلاس اليونان واضطرت أوروبا إلى الاستعانة بصندوق النقد الدولي للتدخل وإنقاذها من الإفلاس".

على صعيد العالم النامي والاقتصادات الناشئة، تواجه الاقتصادات الناشئة هروباً في رأس المال من أسواقها، كما تواجه كذلك احتمال التخلف عن تسديد الديون التي أصدرتها بالعملات الأجنبية، خاصة الديون التي تصدر بالدولار خارج أميركا أو ما يسمى "يورو بوند".