إضراب شراء عالمي يلوح بالأفق بعدما تآكلت مدخرات البشر وتدهورت قدرتهم الشرائية

باتت الأسواق العالمية والاقتصادات الكبرى والنامية على حد سواء في حالة مأساوية لا تحسد عليها، حيث بلغ التضخم في الولايات المتحدة أعلى مستوياته منذ 40 عامًا، بيد أن مداخيل الأسرة المعيشية، شهدت تراجعًا بوتيرة لم يسبق لها مثيل منذ أن بدأت الحكومة في جمع البيانات عام 1959.

وتعلق صحيفة "فايننشال تايمز" (Financial Times) البريطانية، على ما وصل له العالم قائلةً إن ذلك يرجع إلى ارتفاع تكلفة الغذاء والوقود والمساكن بشكل كبير، حيث لا تظهر أسعار السلع أي علامة على الانخفاض كثيرًا في أي وقت قريب، وذلك جراء الحرب التي تدور رحاها في أوكرانيا.

ويشرح خبراء الاقتصاد أن ارتفاع أسعار السلع في هذه الحالة لا يعني ارتفاعًا في قيمتها، بل هو ترجمة للانخفاض في قيمة النقد الحكومي بالأسواق أولًا، ولنتائج الأزمات التي تخنق سلاسل التوريد والصراعات في العالم ثانيًا.

وتبين الصحيفة أنه حسب تقرير حديث صادر عن شركة إستراتيجية مالية شهيرة، فإن هناك أدلة قوية على ظهور "إضراب شراء" عالمي، حيث بدأ المستهلكون في جميع أنحاء العالم بخفض إنفاقهم على الأشياء التي لا يحتاجونها.

وتبدو هذه الظاهرة جليةً في البلدان النامية، حيث أدى الارتفاع الحاد في أسعار المواد الأساسية (التي تكون أكثر تكلفة عند تسعيرها بعملات تشهد انخفاضا حادا في قيمتها) إلى انقطاع التيار الكهربائي وانعدام الأمن الغذائي.

والمخيف بالأمر أن الصحيفة تعتبر ذلك على أنه يرقى إلى "إزالة" مئات الملايين من الناس من الاقتصاد الاستهلاكي العالمي.

وحين نتحدث عن مصطلح "إضراب الشراء" في الأنظمة العالمية القائمة على ثقافة الاستهلاك، فهذا أمرٌ جلل قد يودي بشركات وكيانات اقتصادية كبرى إلى الإفلاس. ذلك أن البورصة والأسواق العالمية يتم تقييمها ليس وفقًا لما تمثله فعليًا على أرض الواقع، بل وفقًا لثقة الناس بها، وثقة الناس هنا تعني استعدادهم لإنفاق الأموال على منتجاتها.

مواطنون في أمريكا مهددون بانقطاع الكهرباء:

تلفت الصحيفة إلى أن البلدان الغنية تعاني الظاهرة ذاتها، حيث يدين سكان نيويورك ونيوجيرسي بأكثر من 2.4 مليار دولار لشركات الخدمات العامة، وتحذر بعض المدن من انقطاع التيار الكهربائي إذا لم يتم دفع الفواتير.

في الاتجاه المقابل كانت قد بدأت الشركات في تعديل توقعاتها الخاصة للإنفاق، فقد ارتفعت أسعار السيارات المستعملة أكثر من السيارات الجديدة في الولايات المتحدة لبعض الوقت.

وأواخر مارس/آذار الماضي، أعلنت شركة "آبل" (Apple) عن خططها لتقليص إنتاجها من "آيفون إس إي" (iPhone SE) بنسبة 20%، لأن الحرب في أوكرانيا وارتفاع التضخم أدى إلى تقليص الإنفاق الاستهلاكي في جميع أنحاء العالم، كما انخفضت الطلبات الخاصة بسماعات "إيربودز" (airpods).

وحسب الصحيفة، فقد أعلنت "نتفليكس" (Netflix) الأسبوع الماضي أنها خسرت عددًا أكبر من عملاء البث أكثر مما سجلته في الربع الأول، وهو أول تراجع للشركة منذ عقد من الزمان، وأدى الانخفاض في سعر سهم خدمة البث المباشر بنسبة 35% بعد الإعلان إلى انخفاض مؤشر "ستاندارد آند بورز"  (S&P).

أسلوب حياة تقشفي بحت ينتظر ملايين الناس:

ما يعد مثيرًا للقلق حاليًا أن أي شيء يمكن للناس التخلي عنه، بدءًا من تناول الطعام في الخارج مرورًا بالعطلة الصيفية والملابس الجديدة والأجهزة المنزلية والسيارات أو الأدوات، قد يتضرر إذا ظلت تكاليف الطعام والوقود والسكن (في أماكن مثل الولايات المتحدة) مرتفعة.

والأزمات المماثلة في الماضي تثبت لنا أنه إذا أُجبر المواطن الأمريكي والأوروبي على التخلي عن بعض الكماليات، فإن الأزمة التي يصلى بنارها مواطنو الدول الفقيرة والنامية ستضطرهم للاستغناء عن الأساسيات.

وفي الوقت الذي يعيش فيه 60% من الأميركيين على الرواتب لدفع نفقاتهم ويعانون هذه الوضعية، إلا أن هناك مؤشرات على أنه حتى الأشخاص الأكثر ثراءً أصبحوا قلقين بشأن الإنفاق الزائد، فقد أظهر أحد الاستطلاعات الأخيرة أن أكثر من نصف أولئك الذين يكسبون 100 ألف دولار أو أكثر سنويا باتوا يتناولون الطعام في الخارج بشكل أقل، وأن ثلثهم تقريبًا قلصوا من دفع اشتراكات التوصيل والسفر والاشتراكات الشهرية.

تأثير الدومينو ونقطة تحول تاريخية في الأسواق؟

تساءلت الصحيفة عما إذا كان يمكن وصف هذه الحالة بتأثير الدومينو إذا اصطدم انخفاض الإنفاق الاستهلاكي وارتفاع تكاليف المدخلات الخام وانخفاض أسعار الأسهم مع ارتفاع أسعار الفائدة والشركات المثقلة بالديون أكثر من أي وقت مضى.

في هذا الصدد، يقول الخبراء إنه سيكون من الحكمة أن ينظر المستثمرون إلى ما حدث خلال فترات ماضية من انخفاض الدخل ونمو الإنتاج، وخاصة بين سبتمبر/أيلول 1937 ويونيو/حزيران 1938.

ففي ذلك الوقت، وبعد أن بلغت الأسعار مستويات الذروة خلال مناسبتين، تراجعت أسعار الأسهم بنسبة 40% في 3 أشهر، وقد درس هذه الفترة الاقتصادي "كينيث دي روز" بالتفصيل في كتاب له تحت عنوان "اقتصاديات الركود والنهضة"، حيث أوضح أنه بينما كان من الصعب استخلاص الأسباب الدقيقة للانهيار، فقد ارتفعت أسعار البيع بالجملة في وقت كان المستهلكون لا يزالون يراقبون عن كثب الركود ويشعرون بالقلق بشكل متزايد بشأن تأثير المشهد الجيوسياسي في العالم.

بالنتيجة، من الواضح أن هناك أوجه تشابه مثيرة للاستياء مع الصورة الاقتصادية والجيوسياسية العالمية اليوم، إذ إن العالم يشهد تراجعًا في الاستهلاك وارتفاعًا في الأجور ومعدلات التضخم، ناهيك عن اندلاع الحرب في أوكرانيا والارتفاع الشديد في أسعار الفائدة، كما أن عوائد سندات الخزانة الأميركية الحقيقية لمدة 10 سنوات على وشك أن تصبح إيجابية للمرة الأولى منذ الجائحة.

كل تلك العوامل تمنح المستهلكين سببًا آخر للادخار أكثر وللإنفاق بشكل أقل (لأنهم لا يشعرون بالأمان)، كما أنه سيجعل ديون الشركات أكثر تكلفة، ويعرض مصير العديد من الشركات للخطر.

وخلصت الصحيفة إلى القول بأن الأمر يبدو كما لو أننا نقترب من نقطة تحول رئيسية في الأسواق، إذ إن سلاسل التوريد آخذة في التحول، والصراعات تزداد وأنظمة العملات تشهد تغيرات، وكل هذا يحدث في وقت توشك فيه السياسة النقدية على عبور نقطة اللاعودة مع ارتفاع أسعار الفائدة والتشديد الكمي.