هيمنة مخيفة وراء الكواليس... حقيقة حيتان تجارة السلع الجشعين الذين يغفلهم الإعلام
استأثر حيتان الرأسمالية من كبار التجار ورجال الأعمال من أصحاب المليارات بأحقية التحكم باقتصاد العالم في العقود الماضية؛ وبينما أن بعضهم يحظى بشهرة واسعة وله صيت في كل مكان، يعمل آخرون من وراء الكواليس، ويجنون الأرباح الباهظة سرًا، بل قد يتسببون أحيانًا بالأزمات المدمرة بدون أن ينبش عنهم أحد أو يلقى عليهم اللوم.
وينطلق اثنان من الصحفيين، هما "جاك فارشي" و "خافيير بلاس" من هذه الفكرة، ليميطا اللثام في كتابهما الذي حمل عنوان: "العالم للبيع: المال والسلطة والتجار الذين يقايضون موارد الأرض"، عما يدور في كواليس تجارة السلع من أساليب مريبة وغير أخلاقية في كثير من الأحيان.
وقد وصف أهل الخبرة والاختصاص أطروحةَ الصحفيين بأنها اتسمت بالصراحة، فالذين يتاجرون بالسلع ليسوا تجارا عاديين بل هم لاعبون أساسيون في الاقتصاد العالمي المعاصر، وبفضل تحكمهم في انسياب موارد العالم الإستراتيجية باتوا "فاعلين سياسيين أقوياء".
قوة غامضة لا يعرف الناس كيف بدأت:
على الرغم من استحواذها على ثروات هائلة ونفوذ كبير، تظل تجارة السلع قوة غير معروفة نسبيا لمعظم الناس، حتى أن قلة منهم، يعرفون تاريخها ومراحل تطورها، وتأقلمها مع الأسواق المتغيرة والمستجدات في مجال التكنولوجيا، وأساليب عملها.
ويكشف الصحفيان في كتابهما أسماء عدد من التجار الذين حققوا ثراءً فاحشًا عبر شرائهم موارد الأرض وبيعها. ومن خلال إجراء لقاءات مع مئات تجار السلع الحاليين والمتقاعدين، يغوص الصحفيان في دهاليز تجارة السلع التي يصفانها بأنها "عالم من التجار والمغامرين المتهورين، والحكام الأفارقة المستبدين، والمصرفيين السويسريين، وبناة إمبراطوريات الأعمال القساة الذين ربما يحملون مستقبل الجغرافيا السياسية العالمية في أيديهم".
ويتطرق كتاب "العالم للبيع" إلى المراحل النهائية من الحرب العالمية الثانية التي فتحت الباب أمام طفرة غير مسبوقة من المواد الخام، "وهي حقبة من سلام ترافق مع مدن ودول مدمرة بحاجة إلى إعادة بناء".
ويروي المؤلفان كيف أن هذه الطفرة غير المسبوقة ساعدت شركات تعمل في مجال تجارة السلع -مثل: غلينكور، وكارغيل، وفيتول وترافيجورا- على امتلاك ثروات طائلة ونفوذ سياسي.
أقطاب وحيتان تجارة السلع في العالم:
من أقطاب هذه التجارة - يذكر الصحفيان – "ثيودور وايزر" المولود في مدينة هامبورغ الألمانية والذي سافر إلى الاتحاد السوفياتي سعيا لإبرام صفقة لتصدير الديزل والبنزين الذي تنتجه الدولة الشيوعية آنذاك إلى الغرب.
وهناك الأميركي "جون إتش ماكميلان"، مالك شركة كارغيل (Cargill) العاملة في مجال تجارة وشراء وتوزيع الحبوب.
ثم هناك "لودويغ جيسلسون"، الذي فرّ من ألمانيا النازية إلى أميركا بعد المذبحة ضد اليهود، وفي نيويورك امتهن تجارة الخردوات قبل أن يصبح الأب المؤسس الفعلي لأسرة تتاجر في السلع، وتمتلك شركات -من بينها غلينكور- قائمة حتى يومنا هذا.
ويعود لأولئك الرجال الثلاثة الفضل في استحداث نماذج للأعمال التجارية، وإرساء الثقافة المؤسسية للشركات التي كانت بمثابة موجه لتجار السلع طوال أكثر من 80 عاما.
ومن بين الشخصيات التي تناولها الكتاب، رجل يهودي فرّ من النازيين إلى أميركا يدعى "مارسيل ديفيد ريتش"، بدأ عمله موظفا في شركة فيليب براذرز لمنتجات النفط والغاز الطبيعي.
وانتهز "ريتش" فرصة وجوده في تلك الشركة ليشق طريقه نحو الشهرة، بعد أن بدأ يعمل بنفسه في تجارة النفط، ونجح بهدوء في الاستفادة من مشروع خط أنابيب إيلات عسقلان الذي أقيم لنقل النفط الإيراني إلى إسرائيل بعد حرب يونيو/حزيران 1967، واستطاع "ريتش" بيع الخام الإيراني إلى أوروبا.
وبحلول عام 1974، غادر "ريتش" ومعه عدد من كبار التجار الآخرين الشركة ليؤسسوا "مارك ريتش وشركاه للاستثمار". وتمكّن عبر الشركة الجديدة من إنقاذ حكومة جامايكا من الانهيار، بأن زودها بنحو 300 ألف برميل من النفط في غضون 24 ساعة مقابل صفقات مجزية.
ووفر "ريتش" كذلك إمدادات نفطية لحكومة جنوب أفريقيا العنصرية، وقدم رشى لعدد من المسؤولين في جمهورية بوروندي في وسط أفريقيا.
انهيار الاتحاد السوفياتي وعلاقته غير المباشرة بتجارة السلع:
يغطي الجزء الثاني من كتاب "العالم للبيع" أحداثا صاحبت انهيار إمبراطورية "مارك ريتش" حوالي عام 2021، بالإضافة إلى قصص عن شركة "غلينكور" بالتحديد.
وكانت الخلفية التي تدور حولها كل تلك الأحداث هي الجانب الأكثر تشويقا في القصة، وأكثرها ارتباطا بما يدور من أحداث اليوم.
وأول تلك الأحداث هو انهيار الاتحاد السوفياتي الذي يصفه المؤلفان بأنه "أكبر بيع للتصفية في التاريخ"، والذي ما تزال تداعياته تتبدى حتى الآن أكثر من أي وقت مضى.
ووفقا للمؤلفين، فإن العلاقات التي تربط بين النخب الروسية -ولاحقا أرفع المسؤولين في حكومة موسكو- وتجار السلع، هي التي تجعل روسيا مستمرة في أعمالها.
ويجدر بالذكر هنا أن تجار السلع ما انفكوا يتعاملون مع الكرملين ويقدمون لموسكو "شريان حياة اقتصاديا لا يقدر بثمن"، رغم احتدام المعارك في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا حاليا.
صعود الصين بعد بزوغ نجم النخب الروسية:
يرى الصحفيان مؤلفا الكتاب أن الدروس التي تبينت من معاملات تجار السلع، أفضت إلى بزوغ نجم النخب الروسية الثرية. على أن التغير الجوهري الآخر الذي طرأ في النظام العالمي وهزّ تجارة السلع، تمثل في صعود جمهورية الصين الشعبية.
فقد ساهم النمو الهائل للصين، وزيادة تدفقات رأس المال العابر للحدود، فضلا عن ارتفاع معدلات الطلب على السلع؛ في زيادة أرباح شركات -مثل كارغيل وفيتول وغلينكور- بأكثر من 76 مليار دولار على مدى العقد الأول من القرن الحالي وحتى عام 2011.
وقد حقق تجار السلع بفضل تلك الزيادات الهائلة ثراء فاحشًا، غير أن تلك الشركات تنكبت الطريق وهي تمضي في تحقيق تلك الأرباح الطائلة، إذ وقعت في أخطاء كثيرة.
ومن بين تلك الأخطاء: الفضيحة أو التهم التي تلقتها شركة "غلينكور" في عام 2016 بإغراق دولة تشاد في أزمة ديون سيادية، بسبب قرض ضخم قدمته الشركة لنجامينا مقابل النفط الخام.
ويشير الصحفيان إلى أن الصين اكتشفت الإمكانيات الهائلة في تجارة السلع وعوائدها الطائلة من الأرباح، مما حدا بها لبناء قدراتها الخاصة في هذا المجال.
وضرب الصحفيان مثالا على ذلك بالمؤسسة الصينية للنفط والمواد الغذائية، والتي أنفقت 4 مليارات دولار منذ عام 2014 في تأسيس ذراع عالمي للتجارة في السلع الغذائية.
وفي الأجزاء الأخيرة من كتابهما، لاحظ المؤلفان أن تجار السلع يعملون بشكل متزايد كهمزة وصل بين الأسواق المالية الدولية، وقنوات لتحويل الدولارات من صناديق التقاعد والمستثمرين الآخرين إلى دول بعيدة.
ويخلص الخبراء الذين تناولوا كتاب "العالم للبيع"، إلى أن حجم القوة والنفوذ المطلق يعني أنه إذا انهار بعض تجار السلع، فقد تنهار معهم دول بأكملها.