أزمة خبز وغذاء تعصف بجملة من الدول العربية والسبب أكبر من كونه تأثرًا بالوضع العالمي
تعيش غالبية الدول العربية حاليًا أيامًا عصيبة وتحديات صعبة في ترسية الاقتصاد والحفاظ مستلزمات الغذاء الأساسية بمأمن، إذ يكفي البحث عن كلمة "أزمة الخبز في...." عبر جوجل، وضع في الفراغ اسم أي بلدٍ عربي يخطر على بالك، لتشاهد النتائج التي تعكس الواقع المرير.
لكن النقطة المفصلية هنا لا تكمن في وجود الأزمات بحد ذاتها، بل في أسبابها، وإذا كان الجواب الجاهز لديكم هو "سبب الأزمة عالمي – سبب الأزمة حرب أوكرانيا...الخ" فيؤسفنا إخباركم أن هذا الجواب خاطئ لأنه يعبر عن المحفز الذي أظهر الأزمة وأججها، لا عن السبب الحقيقي العميق.
نظرة إلى تاريخ أزمات الخبز عند العرب:
إذا عدنا إلى الماضي قليلًا، فقد عصفت بالمنطقة العربية أزمات خبز متكررة خلال النصف قرن الأخير، سقطت فيها أرواح كثير من المواطنين في طوابير الخبز، وفي الاحتجاجات الشعبية ضد الغلاء وارتفاع أسعار السلع الغذائية وغياب أو شح بعضها.
وفي كلّ أزمة يتكرر نفس السيناريو الذي يحدث حاليًا، إذ تطلق الحكومات الوعود بلسان الحال والمقال بأنه قد حان وقت الاكتفاء الذاتي من قمح الخبز الذي اندلعت بسببه الثورات الشعبية وسقط فيها المئات والآلاف من المواطنين العرب.
لكن عقب انفراج الأزمة تتناسى الحكومات وعودها، وتنتكس عن الوفاء بتعهداتها التي قطعتها على نفسها حتى تفيق على أزمة غذاء جديدة وهكذا دواليك.
نتذكر ما حدث في سنة 2007 حين شهد العالم صدمة عالمية خطيرة وغير مسبوقة في أسعار الغذاء. وفي النصف الأول من 2008 حين أوقفت الدول المنتجة صادرات القمح، وارتفعت أسعار القمح، المادة الأساسية لصناعة الخبز حول العالم، بمعدل 130 بالمائة.
على وقع ذلك، عقدت جامعة الدول العربية جمعية عمومية للمنظمة العربية للتنمية الزراعية في إبريل/ نيسان 2008. وأصدر وزراء الزراعة والمسؤولون عن الشؤون الزراعية العربية "إعلان الرياض لتعزيز التعاون العربي لمواجهة أزمة الغذاء العالمية"، ووضعوا ما سموه استراتيجية التنمية الزراعية العربية المستدامة حتى سنة 2028 لسد الفجوة الغذائية العربية.
قال وزراء العرب حينها "إنهم أدركوا بوعي كامل، وبمنتهى الإحساس بالمسؤولية، خطورة استمرار تدني معدلات نمو الإنتاج الغذائي الراهنة، والتي عجزت عن ملاحقة الزيادات في معدلات الاستهلاك، والحد من اتساع الفجوة الغذائية، وما لذلك من انعكاسات سلبية تهدد الأمن الغذائي والاجتماعي للمواطن العربي."
وأعلنت الجامعة العربية التزام الحكومات العربية بإطلاق مبادرة لبرنامج عربي طارئ للأمن الغذائي تهدف إلى زيادة إنتاج الغذاء في الوطن العربي، وبخاصة إنتاج القمح والبذور الزيتية والسكر، وأيضاً تبني برنامج غذاء عربي لدعم الدول العربية الأكثر تضرراً من نقص الغذاء وارتفاع أسعاره.
وضعت الجامعة خطة عمل وبرنامجاً زمنياً محدد الآجال لتنسيق السياسات الزراعية في الدول العربية للإسراع في بلورة السياسة الزراعية العربية المشتركة في المدى المتوسط، باعتبارها أحد الأهداف الاستراتيجية الرئيسة للتنمية الزراعية العربية، وقيل كلام آخر كبير.
ورصدت مليارات الدولارات لتنفيذ مشروعات الأمن الغذائي والتكامل الزراعي العربي، وبناء مخزون استراتيجي من القمح في المنطقة، والنهوض بالثروة السمكية، وتوطين التكنولوجيا الزراعية في الدول العربية، ومشروعات أخرى عملاقة وخطط براقة لو نفذت لكفت العالم بأسره، وليس المنطقة العربية وحدها.
ثم وبمجرد تحسن أسعار الغذاء في الربع الأخير من سنة 2008، اختفت الخطط والبرامج التي وضعتها الحكومات، بل تراجع الإنتاج الزراعي في الدول العربية بعد الأزمة، وأهدرت الأموال في اجتماعات ومؤتمرات عن الإنجازات الزائفة في مواجهة الأزمة.
وما لبثت الحكومات النائمة طويلًا حتى استيقظت على أزمة غذاء جديدة بعد سنتين فقط، عام 2010، وفرضت الدول المنتجة حظراً على تصدير القمح والذرة والأرز وارتفعت الأسعار إلى الضعف مرة أخرى.
واندلعت المواجهات بين قوات الشرطة والمواطنين وسقط قتلى في الشوارع، واشتعلت الثورات الشعبية في نهاية سنة 2010 في العديد من الدول العربية، وسقطت حكومات وأنظمة لم تع الدرس ولم تتعلم من الأزمات السابقة.
كل ذلك لم يؤثر في ضمير الحكومات النائم، وبعد 10 سنوات أخرى استيقظت من سباتها على أزمة غذاء عالمية جديدة في بداية سنة 2020 بسبب أزمة كورونا. وتوقفت الدول المنتجة عن تصدير السلع الغذائية وزادت الأسعار إلى مستويات تاريخية.
وخلال السنة الماضية ارتفعت أسعار المواد الغذائية العالمية بأكثر من 33%، لتصل إلى أعلى مستوى لها خلال عقد من الزمن بسبب وباء كورونا الذي عطل الإنتاج، وأصبح حوالي عُشر سكان العالم، 800 مليون نسمة، ليس لديهم ما يكفي من الطعام، كثير منهم في الدول العربية. وكالعادة، اجتمعت الحكومات العربية وأبرمت الوعود ووضعت الخطط، ثم تناستها وعادت ريمة لعادتها القديمة.
ولسوء الحظ، تكررت المأساة بعد أقل من سنتين بسبب حرب روسيا على أوكرانيا في فبراير/ شباط سنة 2022 والتي لم تنته بعد، وارتفعت الأسعار العالمية للأغذية إلى مستويات جديدة غير مسبوقة، وتوقفت تماماً واردات القمح والذرة وزيت الطعام من أوكرانيا إلى الدول العربية.
إهمال الراعي ليس ذنب الذئاب:
لا شك أن الأزمات العالمية المتتابعة والتضخم والحروب، هي السبب الظاهري لأزمات القمح والغذاء في الدول العربية، لكن إذا كنا سنفكر في هذا الاتجاه فقط سيعني ذلك أن الدول العربية ستجوع اليوم بسبب حربٍ هنا، وستجوع غدًا بسبب فيروس هناك. والحقيقة أن كل هذه الأزمات لا تبرر الإهمال الحكومي وعدم التحوط للقمة عيش الشعب رغم وجود القوى العاملة والأراضي الخصبة.
فرغم كل الأخبار السيئة عن ارتفاع أسعار القمح وشحه في السوق العالمية والتداعيات المؤكدة بقوة على استقرار المنطقة العربية والأنظمة، لم تتبن حكومة عربية جادة سياسة الاكتفاء الذاتي من القمح حتى كتابة هذه السطور.
إنّ أهم سياسة لزيادة إنتاج القمح تتمثل بالشراء من المزارعين بسعر محفز. لكن الحكومات العربية تفعل العكس، إذ تفرض أسعارا بخسة لشراء القمح من المزارعين العرب، رغم أنّها تشتريه بأسعار باهظة من الدول الأجنبية وبالعملة الصعبة.
على سبيل المثال، مصر، وهي أكبر مستورد للقمح في العالم، فرضت سعر 885 جنيهاً لشراء القمح المحلي، وزن 150 كيلوغراماً، ليكون سعر الطن 5900 جنيه، ما يعادل 321 دولاراً، وفي التوقيت نفسه اشترت شحنة قمح من فرنسا بسعر 466 دولاراً للطن، ما يعادل 8500 جنيه، بزيادة قدرها 145 دولاراً، 2668 جنيهاً، عن سعر القمح المحلي.
الجزائر، خامس أكبر مستورد للقمح في العالم، فرضت سعر 5000 دينار، 35.9 دولاراً، لقنطار القمح المحلي وزن 100 كيلوغرام، ليكون سعر الطن 50000 دينار، ما يعادل 359 دولاراً، وفي التوقيت نفسه اشترت شحنة قمح من أوروبا بسعر 485 دولاراً للطن، بزيادة قدرها 126 دولاراً عن سعر القمح المحلي.
بخس الحكومات العربية أسعار القمح المحلي يدعم مزارع القمح الأجنبي، وينفر المزارعين العرب من زراعة القمح المحلي فتزداد الأزمة تعقيداً.
ثم حينما تأتي ذئاب التضخم والحروب والنوائب الاقتصادية لتلتهم قُوت الشعوب العربية على مرأى ومسمع من حكامها، يهرع الناس البسطاء إلى إلقاء اللوم على الذئب وينسون إهمال الرعاة.