حرب العالم مع التضخم والغلاء... حقيقة ما يدور في غرف الاقتصاد المغلقة بدون تزيين الواقع

الحديث حول التضخم في الإعلام الرسمي وما نسمعه من تصريحات اقتصاديي وسياسيي العالم، هو حديثٌ متحفظ يحمل أوجهًا عدة. وعلى الرغم من فداحة هذه المشكلة وتأثيرها الكارثي على بعض دول العالم، إلا أن مساعي الدول المتحكمة في الاقتصاد العالمي لا تركز بحقيقتها على تخفيض سريع للتضخم أكثر من كونها تركز على التعايش معه.

في هذا الصدد، نشرت وكالة "بلومبيرغ" الاقتصادية الشهيرة تحليلًا يحذر من أن التضخم "لا يبدو أنه سيغادرنا في أي وقت قريب".

تفاؤل مبالغ فيه... ما ينتظرنا مختلف تمامًا عن انخفاض التضخم:

بالرغم من أن الاحتياطي الفيدرالي يتوقع انخفاض التضخم إلى أقل من 3% في العام القادم، ليعود في نهاية الأمر إلى مستويات 2%، إلا أن هناك أسباباً تدعو للاعتقاد بأن ذلك تفاؤل مبالغ فيه.

وترى "بلومبيرغ" أننا نعيش الآن في عالم جديد، وحتى بعد أن تعود الأمور إلى طبيعتها، فقد يصل متوسط معدل التضخم إلى 4% أو حتى 5% في المستقبل المنظور.

وتستدرك الوكالة مضيفةً: "مع ذلك، من الممكن مسامحة البنك الاحتياطي الفيدرالي على تفاؤله هذا. إذ إنه قبل انتشار جائحة كورونا، كانت فكرة أن التضخم لم يعد أمراً مُقلقاً باتت من الأمور المسلم بها، وكُتبت مقالات كثيرة في تفسير أسباب ذلك، وتراجعت صناديق معاشات التقاعد عن وعودها بزيادة الاستحقاقات مواكبة لارتفاع التضخم، ولم يلاحظ ذلك أحد."

لكن الصدمة التي تلقاها العالم خلال السنوات والأشهر الماضية عكست وفندت كل المعطيات القديمة، إذ ارتفع معدل التضخم إلى 8.5%، ومن المحتمل أن يشهد مزيداً من الارتفاع خلال العام على خلفية الإغلاق في الصين من ناحية والحرب في أوكرانيا من الناحية الأخرى.

والشيء الوحيد الذي يجمع عليه خبراء الاقتصاد حاليًا أن هذه الأزمة بكل الأحوال ستترك "ندوباً دائمة على الاقتصاد"، وربما أننا سنودع معدلات التضخم المنخفضة في المرحلة القادمة.

وقد اعتاد الأمريكان سابقاً على الحياة في عالم تبلغ النسبة الطبيعية للتضخم فيه 4% أو 5%، وربما تصبح هذه النسبة التي تستقر عليها معدلات التضخم مستقبلاً. لكن الدول التي لا تمتلك الدولار، ولا النفط، هي التي ستدفع الثمن وهي التي لن تعتاد سريعًا.

30 عامًا من التضخم المنخفض آلت إلى نهايتها:

أسباب عدة يمكن سردها وراء انخفاض معدل التضخم واستقراره إلى هذه الدرجة في الأعوام الثلاثين الأخيرة. ويُرجع أحد التفسيرات الشائعة ذلك إلى اكتشاف الاحتياطي الفيدرالي للسياسة المالية الناجحة أخيراً، بعد سنوات من السياسات الخاطئة.

ويذكر أنه خلال آخر فترات زيادة الأسعار الخطيرة في سبعينيات القرن الماضي، رفع "بول فولكر"، رئيس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك، أسعار الفائدة بما يكفي للتسبب في ركود اقتصادي. وعززّ ذلك الثقة في أن الاحتياطي الفيدرالي سوف يتخذ أي إجراء مهما كان للسيطرة على معدلات التضخم، وهذه المصداقية نفسها ساعدت في الحفاظ على انخفاض التضخم، ذلك لأن الاقتصاد الحديث تقوده إلى حد كبير التوقعات بما ستؤول إليه معدلات التضخم.

كذلك، كانت هناك عوامل اقتصادية أخرى منعت الأسعار من الارتفاع، حيث توسعّت التجارة العالمية عن طريق شراء سلع كثيرة من بلدان ذات عمالة رخيصة، وتعلَّمت الشركات أن تحتفظ بمخزون أقل، محققة استفادة كاملة من سلاسل التوريد العالمية، وكذلك قامت بخفض الإنتاج وزيادة الكفاءة. وساهم الإنترنت أيضاً في تمكين المستهلكين من التسوّق والمقارنة التي حافظت على انخفاض الأسعار.

لكن، بعد جائحة كورونا عاد التضخم للارتفاع، وذلك لأن تأثيرات فيروس كوفيد أفسدت سلاسل التوريد العالمية ونتج عنها نقص في البضائع. كما حصل الناس على أموال إضافية من الحكومة، بينما هم قابعون في منازلهم، أنفقوها على السلع بدلاً من الخدمات، في وقت انكمش فيه العرض.

في الوقت ذاته، صبّت سياسات الحكومة مزيداً من الزيت على النار من خلال توزيعها أموالاً أكثر، بينما استمر الاحتياطي الفيدرالي في الحفاظ على أسعار الفائدة قرب الصفر وواصل شراء الأصول طويلة الأجل، وجميع هذه السياسات كانت مصممة لزيادة الطلب بهدف تجنب ركود الاقتصاد وتخفيض نسب البطالة.

وباختصار، ارتفعت الأسعار بسبب نقص المعروض وزيادة الطلب بشكل كبير. وحتى بعد أن توقفت الحكومة عن توزيع النقود، فإن تأثير سياستها سوف يستمر عالقاً لعدة أشهر. حيث ادَّخر الناس بعضاً من هذه النقود ومازالوا ينفقونها. ومازالت السياسة النقدية تتصف بالتوسعية، وستظهر تأثيراتها على مدى عدة أشهر.

لماذا قد يستمر التضخم طويلًا؟

توجد بعض الأسباب التي تبرر الاعتقاد بأننا قد نظل في عالم يرتفع فيه مستوى التضخم حتى بعد تواري جائحة كورونا، وانتهاء الحرب في أوكرانيا.

فحتى وقتنا الراهن، لم يعلن الاحتياطي الفيدرالي أنه جدير أو أنه سيحافظ على مصداقيته بإبقاء التضخم تحت السيطرة. حيث تباطأ في الإقرار بأن زيادة الأسعار تمثل مشكلة خطيرة ومستدامة، ومازال يعتزم فقط رفع أسعار الفائدة بشكل تدريجي، إلى مستوى من المحتمل أن يكون أدنى من مستوى التضخم. بينما لا يعتقد الكثير من الاقتصاديين أن ذلك سيكون كافياً.

وحتى الآن، مازالت معظم المؤشرات المتعلقة بتوقعات التضخم، من عوائد السندات أو التقارير المسحيّة، منخفضة بدرجة معقولة. ومع ذلك، فكلمّا استطاع معدل التضخم أن يصمد، بات التخلص منه أشد صعوبة.

ندبات اقتصادية حُفرت على جسد العالم ولن تتغير:

منذ فترة طويلة، لم يكن هناك من يركّز انتباهه على مراقبة التضخم. أما الآن فأصبح التضخم مركز الاهتمام والمراقبة. ومعنى ذلك أنه قد يُترجم إلى زيادة في الأجور، وأن الشركات سوف تعتاد على رفع أسعارها، وقد يصبح التضخم أشد رسوخاً حتى مع انحسار ضغوط العرض والطلب.

في الوقت نفسه، ربما تعكس بعض القوى الانكماشية (القوى الاقتصادية التي تساهم في انكماش التضخم) اتجاهها في وقت قريب. إذ يتوقع الاقتصادي "تشارلز غودهارت" أن يترتب على زيادة نسبة كبار السن بين السكان، خاصة في الصين، انتهاء ظاهرة العمالة الرخيصة التي أنتجت سلعاً منخفضة الأسعار.

وربما تضعف الكفاءة على المدى الطويل بسبب أزمات سلاسل التوريد، إذا ما احتفظت الشركات بمخزون كبير تحوطاً ضد نقص المدخلات في المستقبل.

من جهة أخرى، يضغط البيت الأبيض لزيادة الإنتاج محلياً وتشجيع خفض الاعتماد على التجارة، وهو الأمر الذي سيرفع تكلفة وأسعار السلع. ويرحب الديمقراطيون والجمهوريون معاً بهذه السياسات؛ ويرجّح أنها سوف تستمر بصرف النظر عمّن يكون في السلطة.