فاتورة تسليح الدولار... ثمن باهظ قد يجعل أمريكا تخسر الحرب حتى لو كسبت هذه المعركة
أثبتت لنا السنوات الماضية والحروب العديدة التي مرت على تاريخ العالم الحديث، أن أقوى أنواع الانتصار هو ذلك الذي يكون مدعومًا بمكاسب وهيمنة اقتصادية على المدى الطويل، وأي انتصار عسكري أجوف سيؤول عاجلًا أم آجلًا إلى فشل، ولنا في صعود الاتحاد السوفيتي وأفوله خير عبرة ودلالة على هذا الكلام.
وهذا بالتحديد ما يحذر خبراء المعسكر الغربي من وقوعه في السيناريو الأوكراني الذي نشاهده حاليًا، حيث يتخوفون من أن الولايات المتحدة، بعدما كان هدفها جر الروس إلى مستنقع العجز الاقتصادية والانهيار، قد أصابها العمى فضلت الطريقة وحملت نفسها إلى طريقٍ يوصل للحفرة ذاتها.
والأمر هنا لا يتعلق بحقيقة أن روسيا ستكسب هذه الحرب أم تخسرها، بل يتعلق بأن الدولار الأمريكي أثبت أنه قنبلة موقوتة وخطر في يد كل من يمتلكه ويعتمد عليه، مما يعني دلالةً وإنذارًا صارخًا لكل القوى الاقتصادية بالعالم بضرورة البحث عن بديل. والرسالة الواضحة التي قرأها الجميع هي: "الدولار سلاح قبل أن يكون عملة".
فاتورة تسليح الدولار:
نشرت صحيفة "فايننشال تايمز" (Financial Times) البريطانية تقريرًا لكل من "روبن ويغلزورث" و "بولينا إيفانوفا"، تناولت فيه مردات وعواقب استخدام الدولار كسلاح، وصحوة بعض الدول حول العالم لهذه الإمكانية الخطيرة التي يمتلكها الأمريكان للبحث عن بديل قبل فوات الأوان.
ابتدأ الكاتبان بالإشارة إلى أن رئيس جنوب أفريقيا "سيريل رامافوزا" لم يكن وحده الذي تبنى موقفًا "متوازنًا" من الحرب الأوكرانية، رافضا الانحياز إلى أي طرف؛ فلقد أعرب الرئيس البرازيلي "جايير بولسونارو" بعد حرب روسيا على أوكرانيا عن حياده، كما رفض الرئيس المكسيكي أيضًا الانضمام إلى العقوبات المفروضة على روسيا، وامتنعت الصين -ثاني أكبر اقتصاد في العالم- عن انتقاد الحرب على أوكرانيا.
حسب تقرير الصحيفة، فإن قوة العقوبات المفروضة على روسيا تستند إلى هيمنة الدولار الأميركي الذي يعد العملة الأكثر استخدامًا في التجارة والمعاملات المالية واحتياطات البنك المركزي.
ومن خلال تسليح الدولار، تخاطر الولايات المتحدة وحلفاؤها بإثارة رد فعل عنيف يمكن أن يقوض قيمة العملة الأميركية، ويقحم النظام المالي العالمي في سباق محموم من شأنه أن يجعل الوضع الاقتصادي العالمي أسوأ حالًا.
ويقول أحد المحللين الإستراتيجيين لدى "كريدي سويس" (Credit Suisse) في هذا الصدد إن "الحروب تقلب هيمنة العملات رأسًا على عقب وتساعد على ولادة أنظمة نقدية جديدة".
ويشير الكاتبان إلى أن الصين، على وجه الخصوص، لديها خطط طويلة الأجل لعملتها لتضطلع بدور أكبر بكثير في النظام المالي الدولي؛ إذ تنظر بكين إلى هيمنة الدولار بصفتها إحدى حصون القوة الأميركية التي تريد التخلص منها، فضلا عن سيطرة البحرية الأميركية على المحيطات.
وتنقل الصحيفة تصريحات "تشانغ يانلينغ"، نائبة الرئيس التنفيذي السابقة لبنك الصين، في خطاب ألقته الأسبوع الماضي، التي قالت فيها إن العقوبات "ستُفقد الولايات المتحدة مصداقيتها وتقوض هيمنة الدولار على المدى الطويل"، كما اقترحت أن تساعد الصين العالم في "التخلص من هيمنة الدولار".
ويبين الكاتبان أنه لطالما كانت هناك توقعات بانهيار الدولار في السابق، لكن تلك التوقعات لم تزد العملة الأميركية إلا قوة ونفوذًا، ولكن إذا كان هناك تحول مطرد بعيدًا عن الدولار في السنوات المقبلة، فقد يُنظر إلى العقوبات المفروضة على البنك المركزي الروسي ليس على أنها إستراتيجية فعالة لممارسة الضغط على أحد الخصوم الغرب فحسب، بل باعتبارها القرار الذي أسهم في تراجع هيمنة الدولار.
استهداف بلد بحجم روسيا... هل يستحق الأمر المخاطرة؟
يرى أستاذ القانون المالي في جامعة فيرجينيا "ميتو غولاتي"، أن "استهداف بلد بحجم روسيا وقوتها أمر لم يسبق له مثيل، حيث إن الإجراءات المتخذة ضدها يمكن أن تسهم في إرساء نظام جديد في المستقبل".
ويضيف: "إذا تغيرت القواعد الخاصة بروسيا، فإنك تغير القواعد للعالم بأسره، وبمجرد أن تتغير هذه القواعد، يتغير القطاع المالي الدولي".
ثم يلفت الكاتبان في تقرير الصحيفة، إلى أنه مع تسريع روسيا حشد قواتها على الحدود مع أوكرانيا في وقت سابق من هذا العام والتهديد بالحرب؛ أجرى كبار المسؤولين الماليين في البلاد اختبار ضغط لتأثير العقوبات المحتملة.
وبحلول نهاية فبراير/شباط الماضي، شنت روسيا حربا على أوكرانيا، وفُرضت العقوبات وتم تجميد جزء كبير من الاحتياطات الأجنبية للبنك المركزي الروسي. ونتيجة لذلك، انخفض الروبل إلى 135 مقابل الدولار، مسجلًا تراجعًا بنحو 50% منذ بداية السنة.
في هذا السياق، صرّح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مارس/آذار الماضي "لا أحد كان يتوقع ما العقوبات التي قد يفرضها الغرب، لكن قرار تجميد احتياطات البنك المركزي كان مجرد خطة لسرقة الأموال الروسية".
ويؤكد الكاتبان أن الوضع -بعد 5 أسابيع من الحرب- شهد تغييرات على الأقل ظاهريًا، فقد استعاد الروبل معظم مكاسبه التي فقدها في الأيام التي تلت إعلان العقوبات لأول مرة؛ مما دفع بعض المسؤولين الروس إلى القول بفشل الإجراءات.
وقد صرح "فياتشيسلاف فولودين"، رئيس مجلس النواب الروسي في مجلس الدوما قبل أيام بالقول "هذه بداية نهاية احتكار الدولار في العالم"، مضيفًا أن "أي شخص يحتفظ بماله بالدولار اليوم لم يعد متأكدًا من أن الولايات المتحدة لن تسرق أمواله"، وتابع "لم تنجح العقوبات الجهنمية؛ إذ كانوا يأملون في انهيار الاقتصاد وشل النظام المصرفي في روسيا. لكنهم فشلوا في ذلك".
في المقابل، يفند بعض المحللين الاستعراض الروسي المتفاخر، مؤكدين أن انتعاش الاقتصاد الروسي يعكس إلى حد كبير الضوابط الصارمة على رأس المال وزيادات أسعار الفائدة التي كشفت عنها روسيا استجابة للعقوبات، ويضيفون أن تأثير العقوبات ستكون حادة على الاقتصاد الروسي، بغض النظر عن التحسن الذي شهدته عملة الروبل.
مواضع الخطر والتصدع في العقوبات المستندة إلى هيمنة الدولار:
ينبه الكاتبان إلى أن هناك بعض الدلائل المبدئية على أن روسيا قد تجد طرقًا للالتفاف حول العقوبات والنظام المالي الأميركي القائم على الدولار، ومن المحتمل أن توفر بابًا خلفيًّا للمدفوعات لروسيا؛ حيث يقول المسؤولون الهنود إن الحكومة والبنك المركزي قد بحثا إبرام اتفاق للتبادل التجاري بالعملات المحلية أي الروبية والروبل، وهي آلية استخدمها البلدان خلال حقبة الاتحاد السوفياتي، التي تضمنت تجارة المقايضة التي تشمل النفط والسلع الأخرى.
ويتابع الكاتبان أن البعض يخشون من أن تكون الحرب بداية تحول جذري في الاقتصاد العالمي؛ إذ إن "لاري فينك"، الرئيس التنفيذي لشركة "بلاك روك" -باعتباره صاحب أكبر مجموعة استثمارية في العالم- يجادل في رسالته السنوية إلى المساهمين بأن "الغزو الروسي لأوكرانيا وضع حدًّا للعولمة التي شهدناها خلال العقود الثلاثة الماضية"، وقال "إن إحدى النتائج قد تكون زيادة استخدام العملات الرقمية" وهو مجال قامت فيه السلطات الصينية باستعدادات مهمة.
ويوضح الكاتبان أنّ صندوق النقد الدولي يعتقد أيضًا أن هيمنة الدولار يمكن أن تتضاءل بسبب "تجزئة" النظام، على الرغم من أنه من المرجح أن تظل العملة العالمية الأساسية.
ويضيفان أن العقوبات يمكن أن تعمل على تسريع التغييرات في البنية التحتية للتمويل الدولي، خاصة أن الصين أمضت سنوات في تطوير نظامها الخاص للمدفوعات بين البنوك المُقوّم بالرنمينبي "سيبس" (Cips)، الذي يضم الآن 1200 مؤسسة عضو في 100 دولة.
لكنّ نظام "سيبس" لا يزال صغيرًا مقارنة بنظام الدفع "سويفت" (SWIFT)، الذي يتخذ من أوروبا مقرًّا له ويُعد جزءًا مهمًا من نظام العقوبات ضد روسيا.
ووفقًا لأحدث بيانات صندوق النقد الدولي، يمثّل الدولار نحو 59% من بين 12 تريليون دولار من احتياطات العملات الأجنبية التي تحتفظ بها البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم في نهاية عام 2021، وهذا أقل من 71% في عام 1999، عندما تم إطلاق اليورو.
وقال أستاذ الاقتصاد في بيركلي وعميد دراسات النظام النقدي الدولي، "باري إيشنغرين"، إن العملة الأوروبية المشتركة هي البديل الرئيسي للدولار؛ فهي تمثل 20% من احتياطات البنك المركزي، ولكنه لفت أيضًا إلى أنه كان هناك تحول ملحوظ إلى العملات الأصغر مثل الدولار الأسترالي والون الكوري وقبل كل شيء الرنمينبي الصيني.
هيمنة الدولار... هل هي بداية النهاية؟
يشدد الكاتبان على أنه رغم كل التكهنات حول تأثير العقوبات، لا تزال هناك أسباب قوية للاعتقاد بأنها لن تُشجّع على حدوث تحول في اللبنات الأساسية التي يقوم عليها التمويل العالمي -على الأقل- في المستقبل المنظور، فعلى الرغم من الانتعاش الأخير في الروبل، فإنه لا توجد طريقة سهلة لروسيا للتهرّب من تأثير العقوبات، وهو ما أوضحته مديرة البرنامج الإقليمي للمعهد المستقل للسياسة الاجتماعية، ناتاليا زوباريفيتش، بقولها إن العقوبات سيظهر تأثيرها على مدى أشهر وليس أيام.
علاوة على ذلك، فإن التهديد بفرض عقوبات أميركية وأوروبية على الكيانات التي تسعى بنشاط إلى مساعدة روسيا في التهرّب من الحصار المالي سيكون رادعًا رئيسيًّا، حتى للبنوك في البلدان التي يمكنها مساعدة موسكو.
ويستمر الكاتبان فيقولان إنه ليس من السهل على المنافسين إزاحة الدولار؛ إذ إن بعض البلدان تخشى تعرضها إلى عقوبات مماثلة بسبب وجود نقص في البدائل القابلة للتطبيق.
ويرى الكاتبان أن ذلك يشكّل معضلةً حادةً بالنسبة للصين بشكل خاص، فمع وجود احتياطات من العملات الأجنبية تُقدّر بـ3.2 تريليونات دولار يجب استثمارها، فإنّه ليس لديها خيار سوى امتلاك حيازات كبيرة من الدولارات.
كما أن الدول غير الأوروبية وربما اليابان -التي وقفت جنبًا إلى جنب أميركا في هذا الشأن- لا يوجد لديها سيولة كافية في الأصول المالية في العملات أخرى.
لكن التاريخ لطالما كان يحمل المفاجآت والأحداث غير المتوقعة، والخطر الحقيقي دائمًا ما كان مختبئًا وراء البيانات المطمئنة.