صديق الدول المستبدة ودائن جشع لا يعرف الرحمة... الوجه الخفي لصندوق النقد الدولي

إن صندوق النقد الدولي هو وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، أُنشئ بموجب معاهدة دولية في عام 1944، واضعًا لنفسه هدفًا ظاهريًا هو "العمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي". ويقع مقر الصندوق في واشنطن العاصمة، حيث يديره أعضاؤه الذين يشملون جميع بلدان العالم تقريباً بعددهم البالغ 189 بلدًا، لكن الثقل في القرار والإدارة للقوى العظمى.

قد يبدو ذلك مفاجئًا ومخالفًا للصورة النمطية التي يحملها الكثيرون، لكن صندوق النقد الدولي، غالبًا ما يبغض النظم الديمقراطية المنتخبة والدول التي تحترم سيادتها، وقد لا يفضل التعامل مع دول لديها برلمانات وأجهزة رقابية وأحزاب وقوى سياسية قوية وصحافة مستقلة ومجتمع مدني حيوي ونشط.

وغالبا ما يفضل ويميل الصندوق في تعامله إلى الحكومات والأنظمة المستبدة والقمعية، وفي المقابل يضيق الخناق على النظم المنتخبة، بل يكرهها ويجد صعوبة في التعامل معها وفرض شروطه.

لإزاحة نقاب الغموض ووضع النقاط على الحروف فيما يخص الكلام الذي ابتدأنا به أعلاه، نستعرض عليكم فيما يلي أهم النقاط الواردة في تقريرٍ نشرته صحيفة "العربي الجديد" بهذا الصدد.

لماذا يحب صندوق النقد الدول الفاسدة والطغاة؟

في الواقع، إن الصندوق يتبنى هذا الموقف - غير المعلن طبعاً - انطلاقًا من عدة أسباب، أبرزها أن الحكومات المستبدة قادرة على تنفيذ شروطه وإملاءاته السامة، وفرضها على الشعب بالقوة والقبضة الحديدية، وكبح أي أصوات معارضة لأي اتفاقات مع هذه المؤسسة المالية.

وإذا استغربتم من الداعي لفرض القبضة الحديدة على الشعب للتعامل مع مؤسسة دولية تضع لنفسها أهدافًا مثالية، فيكفي التنويه إلى أن هذا الصندوق قد أغرق حتى الآن العديد من دول العالم في وحل القروض والتعثر والتقشف والغلاء، بل والتخلف والتبعية.

وهكذا، من خلال برلمانات ضعيفة مسيطر عليها وتابعة للفئة الحاكمية، تستطيع الأنظمة المستبدة تمرير أي اتفاقيات مع الصندوق حتى لو مست بالكرامة الوطنية والاستقلال والسيادة، وتدخلت في أدق التفاصيل المتعلقة بمخصصات الموازنة العامة وإيرادات الدولة بما فيها الأموال الموجهة للتعليم والصحة والرواتب والأجور.

بالطبع فإن صندوق النقد يسعد عندما تطبق الدول المقترضة برامجه كاملة من دون نقاش جدي أو مقاومة ومعارضة حقيقية لشروطه المجحفة بحق المواطن والدولة.

ويسعد أكثر عندما يتم تمرير قرارات خطيرة من قبل الحكومات مثل تعويم العملات الوطنية، وزيادة الضرائب والرسوم، وإلغاء الدعم الحكومي المخصص للوقود والسلع الغذائية من دون أدنى اعتراض أو نقد، بغض النظر عن أن المواطن سيتحمل وحده كلفة هذه القرارات الخطرة من قوته وقوت أولاده وأحفاده.

دور الإعلام في تسوية الأمر:

من يقرأ السطور أعلاه قد يشعر بالغرابة لأن الواقع الذي يراه في الإعلام، والاجتماعات التي تدور بالقاعات الفاخرة والشخصيات المرموقة التي تحضرها تنم عن أمور مخالفة تمامًا.

وهنا يأتي دور الإعلام التقليدي للدول المستبدة، الذي يصور إخفاقات برامج المؤسسة المالية التي يتم تنفيذها من قبل الحكومات المقترضة وفشلها على أنها إنجاز تاريخي.

حيث تصور الصحافة القروض الخارجية المتدفقة على الدولة من كل حدب وصوب وبأسعار فائدة مبالغ فيها على أنها ثقة في الاقتصاد القومي والمؤشرات الاقتصادية التي تحققت بفضل برامج الصندوق، أو تحول تلك الصحف عجز الموازنة العامة إلى فائض أولي، والقروض إلى استثمار وتمويل.

أما الدول التي تحترم نفسها، فلن تستطيع قهر المواطن وتهديده بالسجن في حال الخروج إلى الشارع رفضا لأي اتفاق مع الصندوق، ولديها برلمانات منتخبة تستطيع رفض أي شروط تحاول المؤسسة المالية الدولية فرضها، ولديها أيضاً أجهزة تراقب كيفية إنفاق قروض الصندوق والتأكد من توجيهها للغرض الصحيح.

ما السبب في هذه السياسة العوجاء... أليس من غير الحكمة إدانة دولة فاسدة؟

في الواقع إن صندوق النقد لا تهمه كثيراً معرفة مصير قروضه المليارية الضخمة، وفيما إذا كانت توجه لبناء مصانع وقطاع إنتاجي وتصديري وزراعي قوي يفيد المواطن والاقتصاد، أو تبني الدول المقترضة سجوناً ومراكز اعتقال لاحتجاز أصحاب الرأي والصحافيين والنشطاء السياسيين.

ولا يهمه إن كان جزء من هذه الأموال قد يتم توجيهه لإقامة قصور ومبان حكومية فخمة ومقار للوزرات والاجهزة الحكومية، أو تم توجيهه لمصلحة المواطن وتحسين مستواه المعيشي وتوفير السلع الرئيسية بسعر مناسب.

ولا يهمه صرخات الأهالي من الضرائب والرسوم الحكومية العالية، ومن قفزات الأسعار وخفض دعم السلع الرئيسية بما فيها الغذائية، وطحن المواطن.

كل ما يهم صندوق النقد الدولي هو تزيين واجهات الدول من الخارج بالأضواء الصاخبة وشهادات الإشادة والنمو المرتفع وتحقيق فائض أولي في الموازنة العامة للدولة، ونشر تقارير وأخبار دعائية وتسويقية عنه في الصحف ووسائل الإعلام.

لأن ذلك يؤدي ببساطة، في نهاية الأمر، أن تصبح هذه الدول وقادتها وحكوماتها، مجرد ذيول أو أتباع للدول والكيانات الكبرى المسيطرة فعليًا على هذا الصندوق. وإذا كانت فاتورة التبعية هي بضع مليارات من الدولارات الورقية التي تُطبع من العدم، فما أرخصها من فاتورة بدلًا عن الاستعمار وخسارة الجنود والموارد!

أما عندما تقع الفأس في الرأس فالحلول عند صندوق النقد سهلة وسريعة للدول التي تغرق في الديون والسيناريو واحد، تتعثر الدولة في سداد الديون المستحقة للمؤسسات الدولية والدائنين، فتطلب المزيد من القروض حتى تغرق.

أحدث مثال على ذلك الأرجنتين التي اقترضت قبل أيام 44 مليار دولار، وفي عام 2018 اقترضت أكبر قرض في تاريخ الصندوق بقيمة 53 مليار دولار، ورغم هذه القروض الضخمة والسريعة تغرق الدولة اللاتينية في وحل الفوضى وتتهاوى عملتها، البيزو، يوما بعد يوم، ولا أمل في الخروج من هذا النفق المظلم.

ولا تزال الدول تتهافت على الصندوق في إصرار غريب على الغرق في وحل الديون والازمات المعيشية.