قصة الجنيه المصري... من منافس شرس يناطح الدولار والإسترليني إلى عملة فقدت بريقها

لو تحدثنا عن الجنيه المصري حاليًا فسيكون الحديث عن عملة دولة نامية تعاني من مشاكل اقتصادية وتكابد لكي تحمي نفسها من التدهور والتضخم. لكن هذا الكلام لم يكن مُتصورًا عند أول إطلاق للجنيه قبل أكثر من مئة عام، فالعملة المصرية وُلدت وهي صاحبة هيبة ومكانة قوية في سوق العملات.

وقد كان الجنيه المصري في عنفوانه يفوق الجنيه الإسترليني ويعادل 5 دولارات أميركية، لكن قيمته ظلت في تراجع حتى تجاوز سعر صرف الدولار 18 جنيها مصريا مؤخرًا.

كيف بدأ الجنيه؟

نعود بكم للماضي إلى 25 يونيو/حزيران عام 1898، حين أصدر الخديوي "عباس حلمي الثاني" مرسوما بمنح "رفائيل سوارس" حق امتياز إنشاء البنك الأهلي المصري، ومنح البنك الحق في إصدار أوراق مالية لمدة 50 عاما يتم قبولها لدفع الأموال الأميرية، مع أحقية صرف هذه الأوراق بالذهب عند الطلب.

ونص قانون البنك الأهلي على أن يكون غطاء أوراق النقد على أساس النصف من الذهب والنصف الآخر من أوراق مالية تحددها الحكومة المصرية.

وفي 5 يناير/كانون الثاني 1899 كان أول انطلاق للجنيه المصري، وتم تثبيت سعر صرف الجنيه الورقي مقابل الذهب بحيث كانت قيمة الجنيه الواحد تساوي 7.43 غرامات من الذهب، ولم تكن النقود الورقية إلزامية ولكنها كانت قابلة للتغيير بالذهب عند الطلب.

ثم مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، صدر الأمر العالي من حاكم مصر في الثاني من أغسطس/آب 1914 بوقف صرف هذه النقود بالذهب واعتمادها النقد الرسمي القانوني لمصر، وربطها بالجنيه الإسترليني وكان سعر الصرف القانوني للجنيه الإنجليزي 97.5 قرشا مصريا (الجنيه المصري يساوي 100 قرش).

60 عامًا قضاها متربعًا على عرش العملات:

صمد الجنيه المصري منذ يومه الأول ولأكثر من 60 عاما على عرش أعلى عملات العالم قيمة، وكان يتفوق على عملات الدول الكبرى بما فيها الجنيه الإسترليني والدولار الأميركي، وإن كانت قيمته قد تفاوتت عبر السنين نتيجة الأحداث السياسية والعسكرية والاقتصادية الكبرى التي شهدها العالم في النصف الأول من القرن الـ 20.

وكان لارتباط الجنيه المصري رسميا بالعملة الإنجليزية حتى عام 1947 دورًا في بعض التراجع الذي شهدته قيمة الجنيه خلال هذه الفترة، وإن ظل يحتفظ بمكانته أمام عملات العالم المختلفة وأهمها الدولار.

وتُظهر تقارير أسعار صرف العملات الواردة في نشرة الاحتياطي الفدرالي الأميركي منذ عشرينيات القرن الماضي أن الجنيه المصري كان أعلى العملات قيمة أمام الدولار الأميركي من بين 39 عملة مختلفة كانت ترد في التقرير بشكل دوري.

وفقًا لتقرير مفصل نشرته وكالة "الجزيرة"، فيمكن تقسيم المراحل التاريخية التي مر بها سعر صرف الجنيه المصري منذ اعتماده نقدا رسميا للدولة إلى عدة محطات كالتالي:

أولاً: التفوق

منذ بداية القرن الـ 20 وحتى عام 1939 كان الجنيه المصري يساوي 5 دولارات تقريبا ولم تشهد هذه الفترة تراجعا في سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار إلا لسنوات ثلاث بدأت في عام 1931 بعد تخفيض قيمة الجنيه الإسترليني وتبعه في ذلك باقي العملات المرتبطة به.

ثم انخفض سعر صرف الجنيه المصري عام 1931 ليساوي 4.6 دولارات ثم انخفض إلى 3.6 دولارات عام 1932، قبل أن يبدأ في الارتفاع مجددا عام 1933 بعد قرار الولايات المتحدة خفض الدولار الأميركي إلى 59.06% من قيمته المعدنية في مارس/آذار 1933 ليصبح الجنيه مساويا لـ 4.34 دولارات.

وسريعا عاد الجنيه المصري بقوة في العام التالي 1934 ليتجاوز الـ 5 دولارات (5.16 دولارات)، وظل خلال السنوات التالية متجاوزا حاجز الـ 5 دولارات حتى بدأ في التراجع عام 1939 مع بداية الحرب العالمية الثانية.

ثانيًا: تراجع محدود

ظل الجنيه المصري يتراجع منذ بداية عام 1939 حتى وصل في سبتمبر/أيلول شهر اندلاع الحرب العالمية الثانية إلى 4.32 دولارات، ولـ 10 سنوات استقر سعر الجنيه عند 4 دولارات تقريبا، قبل أن يتراجع بنحو 30.5% في سبتمبر/أيلول 1949.

قبل ذلك التاريخ بعامين وتحديدا في يوليو/تموز 1947 فكت مصر ارتباط عملتها الرسمي بالجنيه الإسترليني، وسبق ذلك انضمامها إلى صندوق النقد الدولي، وكانت قيمة الجنيه المصري في ذلك الوقت تساوي 3.67 غرامات من الذهب الخالص، وتعادل 4.13 دولارات.

ورغم فك الارتباط مع العملة الإنجليزية ظل الجنيه المصري متأثرا بتقلبات الجنيه الإسترليني لأن غطاءه النقدي كله تقريبا كان لا يزال مكونا من سندات بريطانية، لذلك فعندما خفض الجنيه الإسترليني في سبتمبر/أيلول سنة 1949 بمقدار 30.5% من قيمته تبعه الجنيه المصري بعد ربع ساعة فقط بنفس القيمة لتنخفض قيمته إلى 2.87 دولار.

ثالثًا: استقرار نسبي

منذ ذلك التاريخ، أصبح الدولار الأميركي يساوي حوالي 0.35 جنيها تقريبا، وهو السعر الذي استمر حتى عام 1961، قبل أن ينخفض الجنيه قليلا ليصبح سعر الدولار 0.4 جنيه عام 1962 ثم 0.43 جنيه منذ عام 1963 إلى عام 1972، وفق البيانات المتاحة في قاعدة بيانات البنك الدولي عن العملة المصرية.

عاود الجنيه الارتفاع عام 1973 ليتراجع سعر الدولار إلى 0.40 ثم 0.39 جنيها حتى عام 1978. وفي عام 1979 خسرت العملة المصرية نصف قيمتها تقريبا مع انتهاج سياسة الانفتاح، ليصل سعر الدولار إلى 0.70 جنيها، وظل الجنيه مستقرا لتسع سنوات قبل أن تتراجع قيمته مجددا عام 1989 حيث وصل سعر الدولار 0.87 جنيها.

رابعًا: تراجع بلا عودة

مع بداية التسعينيات وانتهاج سياسة "الإصلاح الاقتصادي"، بدأ الجنيه يتراجع بشدة مفسحًا الطريق للدولار ليتجاوز العملة المصرية للمرة الأولى منذ أكثر من 9 عقود، ووصل سعر الدولار إلى 1.5 جنيه عام 1990، وفي العام التالي واصل الجنيه التراجع وقفز الدولار إلى 3.14 جنيهات واستمر التراجع ليستقر سعر الدولار عند 3.39 جنيهات بين عامي 1994 و1998.

وظل الجنيه يتراجع تدريجيا حتى تجاوز الدولار حاجز 4 جنيهات عام 2002، ثم جاء قرار التعويم الكامل للجنيه في 2003 لتتهاوى قيمته ويصل متوسط سعر الدولار إلى 6.28 جنيهات عام 2004، قبل أن يتراجع قليلا ويتذبذب صعودا وهبوطا إلى مستوى 5.9 جنيهات للدولار عند قيام "ثورة 25 يناير" عام 2011.

بعد الثورة تعرض الجنيه لمراحل أخرى من التخفيض أمام الدولار الذي ارتفع سعره لأكثر من 6 جنيهات ثم تجاوز 7 جنيهات ليصل إلى 7.7 جنيهات عام 2015 ثم 8.88 جنيهات في مارس/آذار 2016.

دوامة التعويم:

في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 قرر البنك المركزي المصري تحرير سعر صرف الجنيه (تعويم الجنيه) ليسجل الدولار سعر 13 جنيها وظل الجنيه في تراجع أمام الدولار الذي وصل إلى أعلى سعر له في 24 يناير/كانون الثاني 2017، عندما بلغ الدولار 18.94 جنيها، قبل أن يبدأ في التراجع تدريجيا خلال الأعوام التالية حتى وصل إلى 15.66 جنيها في 20 مارس/آذار 2022.

وفي 21 مارس/آذار 2022 استيقظ المصريون على حلقة جديدة من مسلسل تراجع الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي، في إطار ما قالت السلطات إنها محاولة لتجاوز التداعيات الاقتصادية للحرب في أوكرانيا.

وقفز متوسط سعر صرف الدولار الأميركي داخل البنوك المصرية ليصل إلى 18.26 جنيها للبيع و18.17 جنيها للشراء، ثم ارتفع إلى 18.55 للبيع و18.45 للشراء في اليوم التالي قبل أن يتراجع إلى 18.42 للبيع و18.32 جنيها للشراء بنهاية يوم أمس الأربعاء 23 مارس/آذار.