اقتصاد أوروبا المهول بناء من ورق... نقاط ضعف خفية كشفتها حرب أوكرانيا
كلمة أوروبا بحد ذاتها تحمل معها كمية لا يستهان بها من الهيبة في مجال الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا، لكن حقيقة الدول ومدى قوتها لا تظهر أبدًا في أوقات الرخاء، بل في الأزمات وعند الحروب.
وقد كشفت الأزمة الأوكرانية بالفعل عن نقاط ضعفٍ خفية في اقتصاد دول أوروبا، وتجلى لنا ذلك بمعرفة مدى أهمية اعتماد القارة العجوز على الطاقة المتمثلة بالغاز الطبيعي الذي يغطي 23% من استهلاك الكهرباء، و26% من استهلاك الطاقة في منطقة اليورو.
ومن أبرز نقاط الضعف التي أظهرتها تلك الحرب في أوروبا هي التبعية الشديدة بالنسبة للمواد الخام، وانخفاض الإمكانات العسكرية. أما نقاط القوة فتتمثل في الدور الدولي لليورو وأهميته في المدخرات المحلية، حيث يتيح تمويل الإنفاق الأوروبي العام دون صعوبة إضافية.
ولا بد من الإشارة هنا أن الغاز الطبيعي المستورَد من دولة "غير صديقة" كروسيا، يمثل وحده 9% من استهلاك الكهرباء، و10% من استهلاك الطاقة في منطقة اليورو.
وسيؤدي توقف واردات الغاز الطبيعي من روسيا على المدى القصير إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو بنسبة 4% على الأقل (38% من الغاز الطبيعي يستخدَم للصناعة، والباقي للإسكان والمباني التجارية)، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة "لوبوان" الفرنسية.
هذا ونحن نتحدث عن آثار مباشرة مبنية على معطيات وأرقام واضحة، لكن الحرب – كما تعلمون – تعمل كما قطع الدومينو، فتدهور جانب واحد من الاقتصاد قد ينتهي بعواقب وخيمة ومفاجئة لا يمكن اسشترافها عبر البيانات.
تضخم يكاد يخرج عن السيطرة:
من أحد التأثيرات الدائمة للحرب في أوكرانيا على أوروبا هو ارتفاع أسعار المواد الخام: النفط والغاز الطبيعي والمعادن والحبوب، حيث ستكون ذروة التضخم في منطقة اليورو أعلى ممّا كان متوقعاً، وقد يحوم حول 7% بدلاً من 5%.
ومنذ اتفاقيات الأجور لعام 2022 الخاصة بمنطقة اليورو التي تمّ توقيعها مع رفع الأجور بنحو 2.5%، ستكون خسارة القوة الشرائية بالنسبة للموظفين خسارة فادحة، إذ سيؤدي هذا الوضع أولاً إلى إجبار الدول على إنفاق المزيد لدعم دخل الأسر ذات الدخل المنخفض، ما سيخلق مشكلة حقيقية في الماليات العامة.
كما سيؤدي هذا إلى حالة من التضخم المصحوب بالركود (الركود التضخمي)، وضعف النمو في أوروبا.
وبما أن سبب التضخم هذه المرة مختلف عن الأسباب التقليدية (حزم التحفيز أيام الجائحة مثلًا)، فسيتحتم على البنك المركزي الأوروبي ألا يتفاعل مع هذا التضخم، لأنه لا ينتج عن سياسة نقدية توسعية، كما أن سياسة نقدية تقييدية لن تصححه، لذلك سيتعين على البنك المركزي الأوروبي، بدلاً من ذلك، أن يتفاعل أساساً مع ضعف النمو.
أوروبا عسكريًا أضعف مما نتصور:
أهم ما سلطت الحرب الأخيرة الضوء عليه بالنسبة لأوروبا هو الجانب العسكري. فبينما بلغ الإنفاق العسكري في عام 2019 مبلغ 732 مليار دولار في الولايات المتحدة، لم يتجاوز 49 مليار دولار في ألمانيا، و50 في فرنسا، و25 في إيطاليا، و17 في إسبانيا.
أما بالنسبة لقوى العالم العظمى ذات الاقتصادات النامية، فقد بلغ الإنفاق العسكري 261 مليار دولار في الصين، ورسميًا 65 في روسيا، و71 مليار في الهند.
والدفاع الأوروبي ما يزال في "مرحلة جنينية" كما يصف مراقبون، حيث لوحظ بالفعل أن ألمانيا قررت مضاعفة ميزانيتها العسكرية من 1% إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي.
وهذا يعني أن أي إنفاق عسكري إضافي سوف يمتص المدخرات على حساب الاستثمارات الأخرى، وهو أمرٌ غير ملائم، وسيتسبب بمشاكل لا تحصى.
هيمنة اليورو نقطة قوة لا يمكن إنكارها:
على الجانب الآخر، وبحسب صحيفة ”لوبوان“، تُذكّرنا الحرب في أوكرانيا بالثقل الذي يمنحه إصدار عملة احتياطية، حيث يمتلك البنك المركزي الروسي 32% من احتياطياته من العملات الأجنبية باليورو، وتجميدُ هذه الاحتياطيات (مثل الاحتياطيات بالدولار والجنيه الإسترليني) سوف يكون عقابًا لروسيا بشدّة.
جدير بالذكر أن منطقة اليورو تتمتع بسطوة فوق وطنية، مثل التي تمارسها الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، بفضل دور اليورو كعملة احتياطية. وحقيقة أن العديد من الدول تحتفظ بمدخراتها على شكل يورو تعني أنه حتى البلدان غير الحليفة لأوروبا ستضطر للاعتراف بـ "البناء الاقتصادي الورقي" الذي أنشأه الأوربيون وصدقه العالم.