البيتكوين والعملات الرقمية في ميزان الشرع... شرح وافي لحكم اقتنائها وتداولها

يتفق الجميع أن العملات الرقمية هي مفهوم ثوري حديث دخل عالم المال والأعمال بسرعةٍ مفاجئة، فالعديد من الناس لا يستطيع حتى الآن تصور أو فهم طبيعة هذه العملات وفيما إن كان يمكن اعتبارها مالًا أصلًا أم لا، ناهيك عن أمان التعامل بها وتداولها.

أهمية الاستدلال بالشريعة في فهم العملات الرقمية:

جاءت الشريعة الإسلامية بضوابط واضحة وراسخة، لتكون كفيلةً بالحكم على كل مفهوم حديث كان أو قديم، والضوابط الإسلامية في التعاملات المالية هي الأدق والأصح والأضمن على الإطلاق؛ لأنها من مصدر إلهي.

 وفي سياق الاستدلال بالشريعة، نجد دكتور الفقه المقارن والمختص في المعاملات المالية الإسلامية "محمد يوسف أبو جزر"، من أبرز العلماء الذين يؤخذ برأيهم في هذا المجال. وما سنسرده عليكم في السطور التالية هو شرح مقتضبٌ ووافٍ لما قد قام الدكتور بتفصيله في تسجيلات صوتية حول هذا الموضوع عبر قناته على Telegram.

 العملات التقليدية مقابل العملات الرقمية:

كانت التعاملات المالية في قديم الزمان قائمة على مبدأ المقايضة، ثم تعامل الناس بالذهب والفضة لفترة طويلة من تاريخ البشر. وفي عصرنا الحديث ظهرت العملات الورقية التي كانت مغطاة بدايةً بكميات موازية من الذهب في البنوك المركزية، وكانت قيمة العملة وقوتها مرتبطة بالغطاء الذهبي الذي يدعمها.

لم يستمر نظام الغطاء الذهبي للعملات طويلًا، إذ قامت الولايات المتحدة بانقلاب غادر على هذا النظام، لتتحول العملات في زماننا الحالي إلى مجرد أوراق تستمد قيمتها من قوة اقتصاد الدولة وهيمنتها وعوامل أخرى عديدة تتسم بالعشوائية والتخبط.

وكل عملة في كل بلد تخضع لسلطة بنكه المركزي الذي تتاح له حرية التلاعب بها وبقيمتها وفقًا لمصالح الدولة وإن تعارضت من مصالح الأفراد. بالإضافة إلى أنه لا يوجد حد معين مما يمكن إنتاجه (طباعته) من هذه العملات.

أما البيتكوين، فهو عملة تتسم باللامركزية، أي أنها لا تخضع لسيطرة جهة محددة تحركها وفق مصالحها، أو تجعلها مغطاة بأصل أو سلعة أخرى.

وتتميز البيتكوين أيضًا بأنها محدودة (على عكس العملات الورقية القابلة للطباعة بكميات لا حصر لها)، وهذه المحدودية تعطيها قيمة وموثوقية إضافية مثل القيمة التي تمتلكها السلع الثمينة كالذهب. وذلك يعني أن قيمتها على المدى الطويل لن تتعرض للانهيار أو نكسات التضخم، بل على العكس فإنها مرشحة للزيادة.

إذا كان الأمر كذلك، فأين تكمن أوجه الاعتراض على شرعية العملات الرقمية، وهل يمكن اعتبارها مالًا بالمفهوم الشرعي؟

للإجابة عن هذا السؤال: فيما يلي أهم الاعتراضات التي أُثيرت حول مشروعية العملات الرقمية، وتفصيل الرد على كلٍ منها على حدا لإثبات مشروعية التعامل بها.

الاعتراض الأول: عدم مالية العملات الرقمية

يدعي المعترضون أن العملات المالية مجرد برامج محوسبة ولا تتحقق صفة المالية فيها، وللرد على هذا الاعتراض يجب النظر لتعريف اعتبار الشيء مالًا في الشرع.

يفرض العلماء شرطين يجب تحققهما في المال: أن يكون محرزًا (يمكن حيازته) – أن يحل الانتفاع به.

الشرط الأول محقق بالعملات الرقمية، لأن دخول العملات الرقمية على المحفظة الإلكترونية وتوثيقها على ال "block chain" سيعني أن الشخص حصل عليها بالفعل وأصبحت في حرزه، كما يحصل الواحد منا على رصيدٍ في حسابه البنكي.

أما بالنسبة للشرط الثاني، فلم يرد بالشرع ما يحرم الانتفاع بالعملات الرقمية (علمًا أن الأصل بالأشياء أن تكون حلالًا)، فطالما أنها لا تستعمل بغير ما شرع الله فالحكم بالانتفاع بها هو الإباحة.

وجب التنبيه: بعض العملات تصدر من قبل شركات خمور أو ما شابه، وبهذه الحالة ستكون العملة تمثل جزئًا من موجودات الخمور بالشركة وتحرم.

الاعتراض الثاني: انعدام صفة النقدية والثمنية في العملات الرقمية

يقول المعترضون هنا أن هذه العملات لا تتمتع بصفة النقدية والثمنية، ولو نظرنا للأمر من منظور أوسع لوجدنا أن هذه الصفات لم تتحقق لشيء عبر الأزمان إلا للذهب والفضة.

يمتلك الذهب والفضة قيمتان: قيمة سلعية وقيمة نقدية. لذلك فإن هذه السلع لا يمكن أن تفقد قيمتها النقدية لأنها مستمدة من قيمتها كسلعة، وما دون ذلك من كل العملات الورقية لا تعد نقودًا ونقول عنها نقود مجازًا، وهي بالأحرى عملات لا نقود لأنها تفتقر القيمة السلعية. (الورق بحد ذاته ليس له قيمة تعتبر فالنقود الورقية لا تستمد قيمتها من ذاتها).

لذلك فإن إجازة وتشريع العملات الورقية يقتضي بالضرورة تشريع غيرها من العملات على نفس المبدأ ووفقًا لذات الظروف.

أما من يعترض على ثمنيتها، فهو يقصد أن العملات الرقمية لم تحز على صفة الثمنية (ليست ثمنًا لما سواها تقوّم وتستبدل به وتكون وسيطًا للدفع).

وحتى تتحقق صفة الثمنية للعملات الرقمية، لا بد من قبول التعامل بها عُرفًا، وهذا الأمر قد تحقق بالفعل مع اعتراف شركات كبيرة يوازي حجمها اقتصاد دول بأكملها بهذه العملات كوسيطٍ للدفع. بل إن دولًا كالسلفادور قد تبنت البيتكوين كعملة رسمية.

وقياس القبول العام بالعملات الرقمية يكون بحسب الانتشار الدولي لها، وليس بالمقارنة مع عملة البلد الرسمية. على سبيل المثال، لن يقبل البقال المجاور لمنزلك أن تدفع له بالجنيه الإسترليني لكنها عملة منتشرة ومقبولة عالميًا بدون إنكار أحد، ولذلك لا يمكن الاعتراض على ثمنية العملات الرقمية انطلاقًا من عدم قبولها ضمن نطاق مجتمع واحد.

الاعتراض الثالث: التذبذب وعدم ثبات قيمة العملات الرقمية

يعتبر المعترضون أن قيمة العملات غير ثابتة، وعليه فلا يمكن تقييم الأشياء عن طريقها أو باستخدامها.

في الواقع إن هذا الاعتراض ابتعد عن الاستعمالات الأساسية للعملات الرقمية وعاد ليقارنها مع العملات الرسمية، بينما لا يجب اعتبار العملات الرقمية على أنها عملات رسمية، بل هي عملات دولية ذات انتشار كبير تساعد وتساند العملات الرسمية في الاستخدامات المالية.

لا يستعمل الناس العملات الرقمية كبديل عن العملات الرسمية، بل يستعملونها لأسباب استثمارية، أو للحوالات، أو للحفاظ على السرية والسيادة الشخصية على المال. وجميع هذه الأمور لا تحتاج إلى صفة الثبات.

هل تجد من يتملك البيتكوين لشراء الطعام والشراب، أو من يُسأل عن سعر هاتف فيجيب بأن سعره 0.05 بتكوين مثلًا...؟

الجواب لا، فهي لا تحتاج لصفة الثبات لأنها أساسًا لا تستخدم لتقييم الأشياء.

أمر آخر، بينما نعترض على عدم ثبات العملات الرقمية، سنناقض أنفسنا حينما نتعامل ونعترف بعملات أخرى تتقلب بشكل أكبر أحيانًا (الليرة السورية – الليرة اللبنانية – الليرة التركية – الدينار العراقي – العملة السودانية).

باختصار: الاستقرار هو وصف كفاءة وليس شرطًا بالعملة، وإذا كانت العملة لا تحتاج للثبات فلن يكون الاستقرار شرطًا لمشروعية العملة.

الاعتراض الرابع: الجهالة بالجهة المصدرة للعملات الرقمية

يرى أصحاب هذا الاعتراض أن العملات الرقمية بلا ضمان لأنها غير صادرة عن دولة أو جهة معروفة ومعينة. ويضيفون أن إصدار العملة هو من مهام الحاكم والدولة حصرًا ولا يُقبل أن يقوم به من هو دونهم.

تعامل المسلمون لمدة طويلة بعملات الروم والفرس، وحين استشرى الغش في هذه العملات، باشر المسلمون بصك نقودهم بأنفسهم تحت أمر وإشراف السلطان، وكان سبب حصر هذه الصلاحية في متناول يدي السلطان هو فقط منعًا للغش.

إذن فإن حصر صك العملة بأن يكون بواسطة السلطان هو حكم اجتهادي، قائم على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد. وحين يكون بالإمكان منع الغش بدون تدخل السلطان فلا معنى لأن نفرض على أنفسنا هذا الحكم الاجتهادي.

والدارس للبتكوين يعلم جيدًا أنه من المحال تزويرها، لأنها خاضعة لقواعد صارمة لدرجة أن مخترعها لن يتمكن من تزويرها مهما فعل. وهكذا تكون انتفت العلة (مخافة الغش) فينتفي الحكم (حصر الإصدار بأيدي الدولة والسلطان).

الوجه الثاني للاعتراض هو حول عدم ضمانة البيتكوين، وهذا الاعتراض مردود عليه بنقطتين: أولهما أن ضمانات الدول التي تصدر العملات الرسمية هي بالأساس ضمانات وهمية وليست جديرة بالاعتبار، وثانيهما أن البيتكوين لا تحتاج إلى ضامن أساسًا...!

الدليل على عدم ضمان عملات الدول الرسمية، أن أصحاب الثروات لا ينظرون للعملات الورقية كمخزن لثرواتهم، لأنها تتآكل بالتضخم وتفقد قيمتها مع الوقت.

أما الدليل على عدم حاجة البيتكوين لضامن فيكمن في الغاية من نشأة هذه العملات، لأنها لم تنشأ إلا لتحقيق نظام الند للند، وتحييد سلطة البنوك المركزية والدول. ولتحقيق هذه الغاية استبدل مخترعو البيتكوين ضمان البنوك الوهمي لعملاتها بنظام التحقق التام الذي يوفر التعامل الآمن بهذه العملات بدون الحاجة لطرف ثالث ضامن.

الاعتراض الخامس: استعمال البيتكوين في الممنوعات والمحرمات

في الواقع إن استغلال البعض للبتكوين للوصول إلى الممنوعات، هو أشبه باستخدام بعض اللصوص لوسائل التواصل من أجل التخطيط لعملية سطو، فهل نحرّم الإنترنت لأن البعض يستخدمها بشكل غير شرعي...؟

والجدير بالذكر هنا، أن ليس كل ممنوع محرم، فبعض الممنوعات مباحة. على سبيل المثال قد يرغب أحدنا بتحويل أمواله للخارج لكن الدولة تمنع ذلك لأسباب غير شرعية وتتعارض مع مصلحته الشخصية، فله الحرية باستخدام البيتكوين لتجاوز هذا المنع.

باختصار: الأجدر بنا ألا نحارب العملات الرقمية بل أن نحارب المحرمات التي يتم استغلال العملات للوصول إليها.

الاعتراض السادس: عدم وجود البيتكوين في شكل فيزيائي

هذا من الاعتراضات الغريبة، لأن من يقولون بهذا الرأي يستخدمون الكروت الائتمانية وكروت البنك لأجل المعاملات المالية غير المادية بدون اعتراض. فلماذا نقبل الأموال في كروت البنك بشكل رقمي ولا نقبل العملات الرقمية؟!

الحكم العام للعملات الرقمية:

يرى الدكتور "محمد يوسف أبو جزر" بعد مناقشة كل هذه الاعتراضات والرد عليها، أن الحكم العام للتعامل بالعملات الرقمية وتداولها هو الجواز والحِل.

ولا يمكن سحب هذا الحكم على جميع العملات الرقمية، بل يثبت لكل منها حكمه الخاص. وقد أقر الدكتور هذا الحكم بالجواز للبتكوين على وجه الخصوص.