قصة سد النهضة من الألف إلى الياء... المشكلة التي كادت أن تشعل حربًا في إفريقيا
يدرك المطلعون على أزمة سد النهضة بين كلٍ من السودان ومصر وإثيوبيا أنها ليست بالأزمة الحديثة ولا وليدة السنوات الماضية، لكنّ أحدا لم يكن يدري على وجه الدقة متى زُرعت بذور هذه الأزمة لتخوض الدول الثلاثة في خضم معاركها السياسية الآن.
في هذا السياق يرى محللون أن التحقيق بهذه المشكلة يبدأ من عند "أسياس أفورقي" الرئيس الإريتري الذي حضر جلسة المؤتمر السنوي لقمة "منظمة الوحدة الأفريقية" التي عُقدت بالقاهرة عام 1993، ومنها وإليها نَسب المرحلة الأولى من الصراع في لقاء أجراه مع التليفزيون الإريتري في يناير/كانون الثاني من عام 2016.
كانت القمة المعقودة في القاهرة أواخر يونيو/حزيران برئاسة مصرية وبحضور قادة إيفريقيا وبينهم "ميليس زيناوي"، زعيم "الجبهة الشعبية الديمقراطية الإثيوبية" ورجلها القوي حينها، قد شهدت وفقا لـ "أفورقي" حوارًا حادًا بين "زيناوي" و"عمر سليمان"، رئيس المخابرات المصرية في ذلك الوقت، حاول فيه الأول طرح خططه لتنمية إثيوبيا الخارجةِ بالكاد مما يقارب ربع قرن من حروب أهلية ومجاعات أودت بحياة أكثر من مليون شخص، وبما يشمل خططًا للتنمية في مجالات الطاقة والمياه على نهر النيل، لينتهي طرحه بسؤال حاد ومفاجئ من "سليمان": مَن تظن نفسك؟
سوف يري العرب من يكون:
لم يُجِب "زيناوي" مباشرةً حينها، وإن كان قد أجاب إجابة خاصة لراوي الحكاية "أفورقي" قائلًا إنه سوف "يُري العرب" مَن يكون، ثم انطلقت بعد عام من تلك الواقعة، مجموعةٌ واسعةٌ من مشروعات تنمية موارد المياه والطاقة بإثيوبيا بدأت بمحطات طاقة صغيرة وانتهت بمشروع السد العظيم. وهذا ما جعل "أفورقي" يُصرِّح بأن سد النهضة ما هو إلا مشروع "عاطفي" و"سياسي" أكثر منه تنموي يهدف للنهوض باحتياجات الإثيوبيين.
جذور المشكلة أقدم من ذلك:
كل ما ذكر أعلاه يمكن اعتباره شرارة الخلاف التي أشعلت الحريق، لكن جذور المشكلة في الواقع تعود إلى أقدم من ذلك...
تعود جذور الخلاف المصري-الإثيوبي حول نهر النيل إلى المعاهدة الإنكليزية–المصرية التي أُبرمت في العام 1929، والتي لم يكن الإثيوبيون طرفًا فيها، بل زعمت المملكة المتحدة أنها تفاوضت بشأنها مع مصر بالنيابة عن إثيوبيا وعدد من دول حوض النيل الأخرى التي كانت خاضعة إلى سيطرة البريطانيين.
وفي العام 1959، أي بعد ثلاث سنوات من استقلال السودان عن الحكم الإنكليزي-المصري، وقّعت الخرطوم والقاهرة اتفاقية خاصة بهما حول نهر النيل. وقد كرّست اتفاقية العام 1959 المعاهدة الإنكليزية–المصرية، وأدخلت تعديلات أفادت الدولتين، كزيادة حصة مصر السنوية المضمونة من المياه إلى 55.5 مليار متر مكعب، وحصة السودان إلى 18.5 مليار متر مكعب. وهذه المرة أيضًا، لم يتمّ استشارة إثيوبيا ودول أخرى في الاتفاق.
ولهذا السبب، اعتبرت أديس أبابا لسنوات طويلة أن معاهدة العام 1929 واتفاقية العام 1959 لا تأخذان في الحسبان احتياجاتها من المياه، علمًا بأن النيل الأزرق الذي ينبع من مرتفعاتها، فضلًا عن نهر عطبرة بدرجة أقل (وكلاهما من روافد نهر النيل) يزوّدان النهر الأساسي بنسبة 80 في المئة من مياهه التي تتدفق لتصبّ في السودان ومصر.
بدايات مشروع سد النهضة والبحث عن تمويل:
كانت البداية في عام 2002 مع سد تكيزي، الذي شُيِّد على نهر عطبرة، أحد روافد نهر النيل، بتكلفة بلغت 224 مليون دولار، وانتُهي منه بالفعل في عام 2009، ولكنه لم يُثِر قدرا كبيرا من المشكلات بسبب انخفاض السعة الإجمالية للمياه التي يحتجزها السد (تبلغ سعته نحو 9 مليارات متر مكعب فقط)، رغم أنه احتجز ما لا يقل عن 30% من الطمي الذي كان النيل يحمله إلى الأراضي المصرية مُتسبِّبا في انخفاض خصوبتها، ولاحقا نجحت أديس أبابا في توقيع عقود مبدئية لبناء 5 سدود أخرى، على رأسها سد "جايب 3" على نهر أومو بتكلفة 1.6 مليار دولار، وهو السد الذي كاد يُثير أزمة سياسية كبيرة بين إثيوبيا وكينيا.
ومع ذلك، ظل سد النهضة، أو المشروع "إكس" كما كان يُلقَّب في الأروقة الرسمية، يُمثِّل تحديا من نوع خاص بالنسبة إلى أديس أبابا، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل، في مقدمتها التكلفة الكبيرة للسد المُقدَّرة بشكل مبدئي بـ 5 مليارات دولار (نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي لإثيوبيا عام 2018)، وهو مبلغ يتعذّر جمعه بطرق التمويل التقليدية، خاصة في بلد صُنِّف كأحد أكبر المتلقّين للمساعدات الدولية في أفريقيا خلال العقد الأول من الألفية، ويُعتقد أنه خسر خلال الفترة نفسها ما يزيد على 11.7 مليار دولار بسبب التدفقات المالية غير المشروعة، أي حركة الأموال بشكل غير شرعي إلى خارج البلاد سواء بسبب أنشطة غسيل الأموال أو الملاذات الضريبية، ناهيك بكون احتياطاته من النقد الأجنبي كانت تكفي بالكاد لتغطية تكاليف شهرين فقط من الواردات، وفق بيانات عام 2012.
أضف إلى ذلك الأبعاد السياسية والأمنية الكبيرة المرتبطة ببناء السد، وتأثيره المؤكد على أمن مصر المائي، ومركزية منطقة حوض النيل بالنسبة للكثير من القوى الغربية، هو ما يعني أن القاهرة ستحشد كل نفوذها السياسي والاقتصادي، بما في ذلك علاقاتها المميزة مع الغرب، لمنع السد من أن يصبح حقيقة واقعة عبر إعاقة تمويله في المقام الأول.
الصين تصبح مفتاح الحلم الإثيوبي:
أقامت الصين بشكل خفي نفوذها بين القوى الناشئة في أفريقيا، ووضعت أنظارها على أكثر الموارد المتنازع عليها في القارة وخاصة الموارد المائية والأنهار، حيث تُشير البيانات إلى أن الصين استثمرت في تمويل وبناء السدود في 22 دولة أفريقية خلال العقد الأخير، ولم تكن منطقة حوض النيل استثناء من ذلك، فوسط التراجع الملحوظ للقاهرة، والصعود الواضح لإثيوبيا، تمكّنت بكين من توظيف الصراع طويل الأمد بين القوتين لمصلحتها، وبخلاف ذلك، فإن بكين وجدت في أديس أبابا، المعروفة تاريخيا بمقاومتها للاستعمار والنفوذ الغربي، موطئ قدم مناسب لتأمين دورها المستقبلي في أفريقيا بشكل عام، وفي منطقة حوض النيل على وجه التحديد.
بدأت بكين رحلتها في إثيوبيا مبكرا، وتحديدا في عام 2002 حين قامت بتمويل سد تكيزي بقيمة 224 مليون دولار عبر "كونسورتيوم" من الشركات الصينية، ولكن الإعلان الأكثر صخبا للوجود الصيني في منطقة حوض النيل حدث في عام 2012 حين قرّرت بكين استثمار 500 مليون دولار أميركي في سد "جايب 3" المثير للجدل على نهر أومو، ما تسبّب في غضب كبير امتد من كينيا المجاورة، المتضرر الرئيسي من السد، وصولا إلى القاهرة، لكن ذلك كله لم يردع أديس أبابا وبكين عن مواصلة تعاونهما الكهرومائي، على الرغم من أن الصين قد تجنّبت تقديم قروض مباشرة لتغطية تكاليف إنشاء سد النهضة، خوفا من إثارة غضب مصر التي تمتلك فيها بكين أيضا مصالح متنامية.
وبدلا من ذلك، تعهّدت الصين في عام 2013 بتقديم قرض بقيمة 1.2 مليار دولار لتمويل خطوط الكهرباء والبنية التحتية المقرر أن تنقل الكهرباء المولدة من السد إلى البلدات والمدن الرئيسية، وعلاوة على ذلك، أعلنت بكين في إبريل/نيسان 2019 عن منح قرض بقيمة 1.8 مليار دولار لحكومة رئيس الوزراء الجديد آبي أحمد خلال الزيارة التي قام بها الأخير إلى الصين بهدف توسيع شبكة الكهرباء في إثيوبيا، وهو قرض يُعتقد أن جزءا كبيرا منه قد وُجِّه لاستكمال أعمال الإنشاءات وشراء التوربينات اللازمة لتشغيل السد، وفي المقابل قامت الحكومة الإثيوبية بمنح الكثير من عقود السد المربحة للشركات الصينية، فخلال النصف الأول من العام الماضي وحده، تعاقدت شركة الكهرباء المملوكة للدولة الإثيوبية مع مجموعة جيزوبا الصينية، وهي شركة هندسية مملوكة للدولة، للمشاركة في أعمال الإنشاءات الخاصة بالسد مقابل 40.1 مليون دولار، وفي الوقت نفسه، تعاقدت الحكومة الإثيوبية مع الفرع الصيني لشركة "فويث هيدرو الألمانية" للطاقة الكهرومائية المحدودة لتوريد التوربينات الثلاثة الأخيرة للسد مقابل 112 مليون دولار (ورّدت الشركة بالفعل 13 توربينا لأعمال السد خلال العامين الماضيين).
إثيوبيا تنجح باجتذاب حيتان الاقتصاد إلى طرفها:
لم تقتصر أديس أبابا على الصين بل دخلت هذا التحدي بشكل أوسع بكثير من ذلك، حيث يُعتقد أن هناك عشرات الشركات الغربية التي ترتبط بعقود عمل متفاوتة في سد النهضة الإثيوبي، وفي الواقع، تُشير مصادر إلى أن جميع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وغيرها من الدول النافذة إقليميا ودوليا، لديها شركات تعمل في سد النهضة، بما يعني أن هذه الدول سوف تكون -في أفضل الأحوال- مترددة في اتخاذ أي مواقف منحازة ضد مصالح إثيوبيا بشأن قضية سد النهضة، حال أُثيرت القضية في أيٍّ من المنتديات والمحافل العالمية، بما في ذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
لماذا أدار المجتمع الدولي ظهره لمصر؟
في سيناريو مُتوقَّع للغاية، خيَّبت جلسة مجلس الأمن الأخيرة آمال المصريين في دعم حقيقي من المجتمع الدولي لحقوقهم المائية أو ممارسة ضغوط على إثيوبيا لتليين مواقفها والقبول بالتفاوض حول اتفاق ملزم حول قواعد إدارة وتشغيل سد النَّهضة. فلا تزال أديس أبابا تتشبث بمواقفها المتعنِّتة، وهو أمر لا يُمكن تفسيره فقط بأهمية السد ومركزيته في خُطط التنمية الاقتصادية الطموحة في البلاد.
في الواقع، هناك الكثير من الأسباب التي تدفع الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، إلى تجنُّب الانحياز ضد إثيوبيا والوقوف إلى جانب مصر في قضية سد النهضة، رغم امتلاك القاهرة للمسوغات القانونية والتاريخية، لعل أقلها هي مصالح الشركات الغربية العاملة في أديس أبابا، حيث يبدو أن عوامل مثل موقع إثيوبيا المميز في حوض النيل وثقلها التاريخي الذي لا يمكن إنكاره، والاستقرار النسبي الذي تتمتع به بالمقارنة مع جوارها المضطرب، والفرص الاقتصادية الواعدة التي تُقدِّمها، ومكانتها كقاعدة محتملة للنفوذ الصيني في شرق أفريقيا، قد وضعت أديس أبابا في موقع مماثل لموقف القاهرة إبان حقبة الحرب الباردة، حيث تتبارى القوى المتنافسة لكسب صداقتها.
ظهر ذلك بشكل واضح في مارس/آذار الماضي، حين أعلنت الولايات المتحدة أنها مستعدة لاستثمار 5 مليارات دولار في إثيوبيا من خلال مؤسسة تنموية جديدة أُنشئت أواخر العام الماضي تحت اسم مؤسسة تمويل التنمية الدولية (DFC) تتمتع بقدرة إقراض ضخمة تُقدَّر بـ 60 مليار دولار، وقد أُنشِئت المؤسسة الجديدة بالأساس لتحل محل المؤسسة الأميركية للتمويل الخاص الخارجي (OPIC)، على أن تكون أنشطتها التمويلية موجَّهة لخدمة المصالح السياسية للولايات المتحدة، وعلى رأسها مواجهة النفوذ الصيني الكبير في الدول النامية، وبشكل خاص في أفريقيا.
من جانبها، يبدو أن مصر باتت تُدرك بوضوح هذا التحوُّل في ميزان القوى في منطقة حوض النيل وشرق أفريقيا، ففي حين أن واشنطن بدت منحازة ظاهريا إلى مواقف مصر، خاصة منذ أن رفضت إثيوبيا التوقيع على اتفاق برعاية أميركية نهاية فبراير/شباط الماضي، وتركت مصر تُوقِّع عليه منفردة بالأحرف الأولى، تُشير المصادر الصحفية إلى أن مصر تشعر أن واشنطن قد خذلتها وأنها لم تفعل ما يكفي لإجبار أديس أبابا على تقديم تنازلات بشأن قضية السد، ناهيك بكون واشنطن قد رفضت استخدام ثقلها الاقتصادي للضغط على أديس أبابا لاستكمال المفاوضات.