الاقتصاد اللبناني يدخل في دوامة من التناقضات بين مظاهر الترف والواقع المرير

مع تصاعد المؤشرات السياسية والاقتصادية التي تنبئ بخطورة المرحلة المقبلة، بات يزداد المشهد اللبناني تعقيدًا أكثر فأكثر. لكن الأمر لا يخلو من تناقضات تثير تساؤلات عديدة حول طبيعة الأزمة غير المسبوقة بتاريخ لبنان، خصوصا مع اقتراب موسم الصيف الذي يوحي شكليا أن البلاد تستعيد عافيتها بانتعاش قطاع السياحة والخدمات.

وبعد رفع الإجراءات الرسمية المتعلقة بانتشار فيروس كورونا عاد مشهد الاكتظاظ إلى المطاعم والأسواق والمرافق السياحية، كما بلغت حجوزات الفنادق والمنتجعات ذروتها رغم الارتفاع الباهظ بتكلفة فاتورتها لمن يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية.

"الدولار الاغترابي" قد يفسر اللغز:

في استنتاج بديهي يربط مراقبون هذا الانتعاش بما يعرف بـ “الدولار الاغترابي"، فمن جهة يواصل المغتربون إرسال التحويلات المالية بوتيرة شهرية لعائلاتهم، ومن جهة أخرى يشهد مطار لبنان في أواخر فصل الربيع (2021) توافد المغتربين -الذين يحملون العملات الصعبة- بأعداد مضاعفة مقارنة بالعام الفائت.

هكذا، صارت كل 100 دولار من المغتربين والسياح الأجانب تحدث فرقًا بالاستهلاك والسياحة، وبعد أن كانت تساوي قبل الأزمة 150 ألف ليرة (وفق سعر الصرف الرسمي 1500 ليرة) أصبحت توازي اليوم 1.3 مليون ليرة (وفق سعر الصرف بالسوق السوداء نحو 13 ألف ليرة)، أي نحو ضعفي الحد الأدنى للأجور البالغ 650 ألف ليرة (نحو 50 دولارا).

لكن أمين صندوق نقابة المطاعم والمقاهي في لبنان "عارف سعادة" يعتبر أن ثمة مبالغة بالحديث عن انتعاش مرافق القطاع السياحي بعد نحو عامين من مراكمة الخسائر.

وقال إن إقبال الناس الكبير منذ أسابيع على المطاعم والمقاهي لا يعبر عن "بحبوحة القطاع الذي يقاوم بأنفاسه الأخيرة"، وفق تعبيره عند حديثه مع موقع "الجزيرة نت".

ويعتبر سعادة أن فاتورة المطعم -التي تشمل تكلفة الطعام وأجور العمال وأجرة المحل والصيانة- "فقدت قيمتها بسبب تدهور الليرة، ولم تعد كافية رغم غلائها لسد الحاجات كاملة أو تحقيق الأرباح".

والدليل على ذلك، "بحسب سعادة" أن من بين 12 ألف مؤسسة سياحية في لبنان (ضمنها نحو 8 آلاف مطعم ومقهى) لم يبق سوى 30% منها بعد أن أغلقت مئات المؤسسات أبوابها تباعا، أو تضررت من انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020 وما تبعه من تسريح آلاف العاملين والعاملات الشباب و"معظم من بقي منهم يفتشون عن فرص للهجرة ولو مقابل 500 دولار فقط".

الحقيقة المرة التي يناقضها الترف الوهمي:

هذا الواقع المتناقض شكلا ومضمونا تناولته "الدولية للمعلومات" في دراسة نشرتها في 31 مايو/أيار 2021 تحت عنوان "لبنان بين الأرقام والمظاهر والوقائع.. أين الحقيقة؟".

وانطلاقًا من معطيات رقمية استخلصت "الدولية للمعلومات" أن مشاهد الرفاه التي برزت على أبواب فصل الصيف لا تعكس حقائق الواقع اللبناني الذي تغلب عليه مظاهر الفقر والعوز في ضواحي بيروت وفي الأطراف شمالا وجنوبا وفي جبل لبنان.

وتعتبر الدراسة أن مظاهر الانتعاش في المرافق السياحية يتسبب بها 5% من أثرياء لبنان، أي نحو 215 ألف فرد من أعداد اللبنانيين المقيمين من بين نحو 4.3 ملايين نسمة، إلى جانب نحو 200 ألف أسرة، أي نحو 850 ألف فرد يتلقون تحويلات من الخارج من أهاليهم وأقاربهم، وتتراوح قيمة الحوالة بين 200 وألفي دولار شهريا، مما يعطي هذه الفئة قدرة شرائية عالية.

وتخلص "الدولية للمعلومات" إلى أن وجود نحو مليون لبناني لديهم قدرة شرائية عالية ودخل مرتفع بالدولار (نسبة الـ5% من اللبنانيين الأثرياء بالإضافة إلى 850 ألف لبناني يتلقون تحويلات بالعملات الأجنبية من الخارج) يعطي مظاهر رفاه غير واقعية، و"لا يلغي حقيقة أن هناك نحو 3 ملايين لبناني مقيم يعيشون أوضاعا اقتصادية ومعيشية صعبة".

ومما يعزز استمرار التناقض الكبير أن أكثر من 95% من العاملين في لبنان يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية التي فقدت أكثر من 85% من قيمتها.

ويقدر البنك الدولي أن أكثر من نصف اللبنانيين المقيمين فقراء، أي نحو 2.365 مليون لبناني، من بينهم 25% دون خط الفقر المدقع.

كما بلغت نسبة البطالة 35%، أي نحو 480 ألفا، وهناك نحو 300 ألف يعملون بصورة متقطعة في مهن غير دائمة ولا تشكل استمرارية، إلى جانب حرمان نحو 45% من اللبنانيين من الرعاية الصحية، وفق "الدولية للمعلومات".

في سياقٍ متصل نشر "المرصد الاقتصادي اللبناني لربيع 2021" تقريرا موسعا صادرا عن البنك الدولي في 31 مايو/أيار الماضي جاء بعنوان "لبنان يغرق.. نحو أسوأ 3 أزمات عالمية".

واعتبر أن "الأزمة الاقتصادية والمالية التي تضرب لبنان من بين الأزمات العشر وربما من بين الثلاث الأكثر حدة عالميا منذ أواسط القرن الـ19″، وحمل الطبقة الحاكمة مسؤولية ما وصفه بـ"الكساد المتعمد"، لعدم وجود نقطة تحول واضحة في الأفق "بسبب التقاعس الكارثي المتعمد في السياسة".